قصبة فرخانة بجوار مدينة مليلية المحتلة .. معلمة تاريخية ريفية تحتاج العناية

على بُعد بضعة أمتار قليلة عن السياج الحدودي الذي يفصل مدينة مليلية المحتلة عن باقي التراب الوطني، تقوم قصبة فرخانة بما تبقى لها من أسوار متآكلة تنتظر دورها لتنهار كما انهارت أخرى، فتُطوى ملامح هذه المعلمة التاريخية التي كانت مسرحا لجزء كبير من أحداث شكلت الذاكرة الجماعية لمنطقة الريف.

تقع القصبة في قلب فرخانة ببلدية بني أنصار التابعة للنفوذ الترابي لإقليم الناظور، وتحتل مساحة مدرج نهري منبسط على شكل مستطيل، اختير لها موقعا جغرافيا استراتيجيا بجعلها قريبة من السياج الحدودي لمدينة مليلية لتخدم الأهداف العسكرية التي شيدت القصبة من أجلها.

وعلى غرار العديد من المعالم التاريخية بمنطقة الريف، تواجه معلمة قصبة فرخانة الإهمال والتهميش دون أن تطالها أية أشغال إصلاح أو ترميم، ولم تتبق منها حاليا سوى بضعة أسوار قليلة ما زالت تقاوم عوامل الزمن والمناخ، وقد لا تصمد إلا قليلا لتنمحي آخر ما تبقى من هذه المعلمة.

تأسيس القصبة

أمام قلة المصادر والمراجع التي تناولت تاريخ هذه المعلمة وكذلك ضياع الكثير من الوثائق القديمة التي تؤرخ للأحداث والتفاصيل المتعلقة بقصبة فرخانة، يظل التاريخ الحقيقي لتأسيسها، إلى وقت طويل، محط خلاف بين من يعتبرها من القصبات الإسماعيلية وبين من يربط تأسيسها بعهد محمد الرابع ومن يؤخرها إلى عهد الحسن الأول.

الباحث محمد بن عزوز قال، في موسوعة معلمة المغرب المجلد الأول سنة 1989، إن “أجنادة قصبة تقع بقرية فرخانة من قبيلة مزوجة المجاورة لمدينة مليلية، وتُعرف أيضا بقصبة فرخانة، وهي من القصبات التي بناها السلطان مولاي إسماعيل على الحدود المجاورة للقطر الجزائري سنة 1696، وحيث إن مليلية كانت تحتلها إسبانيا فقد أراد أن يقيم بقصبة أجنادة حامية تتولى أمر محاصرة المدينة المذكورة”.

ومن جهة أخرى، أرجع الباحث حسن الفكيكي تأسيس القصبة إلى زمن متأخر، إذ قال في المجلد التاسع من موسوعة معلمة المغرب إن “القصبة تأسست بمساعدة سكان أخماس قبيلة قلعية عن طريق توزيع المساهمة والنوبة بين أخماسها، تحت إشراف قائد القبيلة المعروف وهو المختار ألغم على عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان وبأمر منه”.

وفي أشغال ندوة نُظمت سنة 2015 بفرخانة حول موضوع القصبة، حصل الإجماع بين الباحثين في تاريخ الريف، بعد دراسات وأبحاث واستقراء الوثائق التاريخية، على أن قصبة فرخانة تأسست سنة 1892 في عهد الحسن الأول.

من جهته، أدلى الإسباني أنطونيو برابينيتو مؤرخ مدينة مليلية، باعتباره أبرز الباحثين المشاركين في الندوة سالفة الذكر، بما يؤكد هذا المعطى التاريخي، حسب ما أفاد به الباحث في تاريخ الريف اليزيد الدريوش.

أسماء أخرى للقصبة

على الرغم من أن أشهر تسمية لهذه البناية التاريخية هي “قصبة فرخانة” نسبة إلى البلدة التي تقع في نطاقها، فإن للمعلمة أسماءَ أخرى تُعرف بها خاصة في الوثائق التاريخية ولدى سكان منطقة الريف الذين عايشوا الأحداث المرتبطة بهذه القصبة، ومن بين هذه الأسماء “جنادة”.

في شرح هذه التسمية، قال اليماني قسوح، أستاذ جامعي وباحث في التاريخ، إن “جنادة صيغة مشتقة من كلمة الجُنْدِ، ولهذا المصطلح دلالة عميقة في ثقافة الريفيين تكتسي طابعا مقدسا؛ فجنادة هو مكان التقاء الجنود المجاهدين الذين نذروا أنفسهم لله، كما يطلق الاسم أيضا على مكان يحتوي على شجرة “لالة تورثوت” (شجرة التين) المقدسة عند الريفيين، وأيضا يقصد بجنادة ذلك المكان العالي الذي يسمح بالحراسة ومراقبة الوجود الأجنبي”.

وتسمى القصبة أيضا بـ”دار المخزن” وقد عرفت بهذا الاسم، حسب اليزيد، باعتبارها أُنشِئت خصيصا بأمر من السلطان الحسن الأول لمنع هجمات الريفيين على الإسبان بمليلية وكذلك لمراقبة تسرب الجنود الإسبان خارج المدينة المحتلة، لأن الصراع كان محتدما بين الطرفين، فتلجأ السلطات الإسبانية إلى فرض غرامات على الدولة المغربية نتيجة الخسائر المزعومة الناتجة عن أي هجوم على جنودها الإسبان.

وحسب اليزيد فإن هذا الوجود العسكري لجنود السلطان داخل القصبة كان سببا مباشرا لتسميتها بـ”دار المخزن” من طرف أهل الريف؛ ذلك أن كلمة “المخزن” كانت تطلق على كل ما له صلة بالدولة.

أحداث تاريخية

تحتفظ قصبة فرخانة بأحداث تاريخية مهمة، كما لعبت أدوارا محورية على مستوى المحطات المرتبطة بالصراع مع الجانب الإسباني بمدينة مليلية التي لا تبعد سوى بمسافة قليلة عن القصبة.

قال اليزيد: “بعد سنة واحدة من تأسيس القصبة التي استطاع جنودها ضبط الهجمات والصراعات الثنائية بين المجاهدين الريفين والجنود الإسبان لفترة محدودة، وقعت بتاريخ 2 أكتوبر 1893 معركة “سيدي ورياش” بين الريفيين بقيادة المجاهد ميمون المختار ضد الإسبان بقيادة الجنرال “مارغيو”.

ولم يستطع جنود القصبة، حينئذ، أردف اليزيد، منع اندلاع هذه المعركة التي ألحق خلالها الريفيون هزيمة كبيرة بالإسبان استطاعوا على إثرها دخول الثغر المحتل ووصلوا إلى منطقة الحي التجاري المعروفة بـ”مانطيليتي” وكانوا على بُعد خطوات قليلة من تحرير المدينة الرازحة تحت السلطة الإسبانية، إذ كان في مليلية من الجنود ما لا يتجاوز المائة”.

وأضاف المتحدث: “هرب الجنود من قصبة فرخانة بعد هذا الاكتساح العسكري من قِبل المجاهدين الريفين، وظلت القصبة خاوية على عروشها، فعادت الأمور إلى سابق عهدها من جديد بسيادة الصراعات والاحتدامات التي كانت تنشب بين المجاهدين الريفيين والجنود الإسبان، مع استمرار السلطات الإسبانية بفرض غرامات على الدولة المغربية نتيجة ما تتكبده من خسائر مزعومة على أيدي المجاهدين الريفيين”.

وحسب الباحث دائما، فقد شهدت القصبة مرحلة أخرى من الهدنة، إذ بعد وفاة السلطان الحسن الأول، تولى بعده الحكمَ السلطانُ مولاي عبد العزيز الذي أعاد الجنود إلى القصبة لمنع الصراع بين الريفيين والإسبان، واستمرت الأحوال كما هي إلى حين مجيء المتمرد بوحمارة الزرهوني الذي سيقود هجوما على القصبة التي سيهرب جنودها مع البشير بن سناح سنة 1908 إلى داخل مدينة مليلية.

وبعد فترة قصيرة، تابع اليزيد، قام المجاهد محمد أمزيان حينئذ بالقضاء على بوحمارة وأذياله بمنطقة الريف؛ وتم تحرير القصبة التي ستقع أخيرا في يد السلطة الإسبانية في حقبة الاستعمار، حيث سيتم إنشاء أول مدرسة للتعليم العمومي في القصبة ذاتها من طرف الاستعمار الإسباني على مستوى منطقة الريف، وبعد نيل المغرب الاستقلال ستُهمل القصبة وستبقى على هذه الحال إلى حدود اليوم.

الخراب يطال القصبة

انهارت أسوار القصبة وتآكل ما تبقى منها وبلغت مرحلة متقدمة من الخراب، حتى استحال التعرف على ملامح هذه المعلمة التاريخية كما وثقتها بعض الصور القديمة.

وعلى الرغم من الوضعية المزرية التي آلت إليها قصبة فرخانة التي تم إدراجها من قِبل وزارة الثقافة كتراث مادي بمنطقة الريف، فإن المعلمة ما زالت تواجه مصيرها دون أن تطالها، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، أية أشغال إصلاح أو ترميم يليق بمكانتها التاريخية.

وتعليقا على الحالة المزرية التي آلت إليها قصبة فرخانة، قال مرزوق شهمي، رئيس جمعية الجسر للتنمية والهجرة بفرخانة – بني أنصار، إن “القصبة أصبحت مخربة ولم تتبق منها سوى أطلال تشهد على وجودها السابق، ويكاد أغلب الناس لا يعلمون بأن قصبة لها أهمية تاريخية كبيرة كانت قائمة هنا في فرخانة”.

وأكد المتحدث أن “القصبة، التي تعتبر من أوائل البنايات التي تم إنشاؤها بفرخانة، لم تحظَ بأية عناية من قبل الجهات المسؤولة رغم مطالب الفاعلين الجمعويين وكذلك الباحثين المهتمين بتاريخ المنطقة”، لافتا إلى أن “القصبة أصبحت مأوى للمتشردين والكلاب الضالة ومطرحا للنفايات”، مؤكدا “أن المسؤولين بالمنطقة وعدوا في وقت سابق بمشروع إصلاح وترميم القصبة باعتبارها إرثا تاريخيا تجب المحافظة عليه؛ لكن القصبة ما زالت، إلى حدود اليوم، على حالها تواجه الخراب والاندثار”.

مطالب بالإصلاح والترميم

عمّم فاعلون جمعويون، في وقت سابق، مطالب بإصلاح وترميم المعالم التاريخية بإقليم الناظور التي يعاني أغلبها من التهميش والخراب، وضمنها معلمة قصبة فرخانة.

قال الحسين طهرية، فاعل جمعوي وإعلامي، إن “هذه القصبة تشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ المنطقة، وهي تحفظ أحداثا بارزة وتفاصيلَ مثيرة عاشها أجدادنا في معركتهم الخالدة ضد الاستعمار الإسباني، واليوم أصبحت القصبة بكل مكانتها وقيمتها مأوى للمتشردين والكلاب الضالة”.

وأضاف طهرية: “أضحت قصبة فرخانة منسية، ومعظم سكان المنطقة من الجيل الحالي، عكس الأجيال السابقة، لا يعرفون هذه المعلمة التاريخية، وكل ما يشاهدونه أمامهم أسوار مخربة بلا معنى ولا هوية، ومطالبنا كفاعلين جمعويين لنا غيرة على بلدنا ومنطقتنا أن يتم ترميم هذه القصبة والتعريف بها في مختلف الأنشطة والمحافل”.

من جهته، طالب يوسف لغماري، فاعل جمعوي ومهتم بالشأن العام بفرخانة، بـ”ترميم أسوار قصبة فرخانة والاهتمام بهذا الكنز التاريخي”، مؤكدا “أن الإبقاء على حالتها المزرية التي تعيشها حاليا سيؤدي إلى انهيار باقي أسوارها؛ وبالتالي ضياع تراث تاريخي مهم بمنطقة الريف”.

The post قصبة فرخانة بجوار مدينة مليلية المحتلة .. معلمة تاريخية ريفية تحتاج العناية appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/HwiavKd

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire