الشاعر سعد سرحان ينتعل "أديداس" ويقاتل "بروس لي" وينثر "هايكو اليابان"

قال الشاعر المغربي سعد سرحان إنه “في سبعينيات القرن الماضي، كانت مايكروسوفت وتيسلا وأمازون مجرد أضغاث أحلام قد لا تتحقق أبدا، فأحرى أن يستتب لها ما استتب الآن من ثروات”، مضيفا أنه كانت هنالك ثلاث شركات عملاقة تتصدر أرقام معاملاتها كل الأرقام، وهي مع حفظ الترتيب كوكا كولا ومارلبورو وأديداس.

وانطلاقا من هذا المعطى، تطرق سعد سرحان، في مقال له، لجوانب مهمة من ظهور وتطور “أديداس و”بروس لي” و”الهايكو”، مبرزا علاقته بهذا الثلاثي في السنوات الماضية، محاولا الإجابة عن مجموعة من التساؤلات حول تلك المواضيع.

هذا نص المقال:

(أديداس)

في سبعينيات القرن الماضي، ومايكروسوفت وتيسلا وأمازون مجرد أضغاث أحلام قد لا تتحقق أبدا، فأحرى أن يستتب لها ما استتب الآن من ثروات، كانت هنالك ثلاث شركات عملاقة تتصدر أرقام معاملاتها كل الأرقام، وهي مع حفظ الترتيب: كوكا كولا ومارلبورو وأديداس.

أما الأولى، فقد كان لها ذلك المراهق الذي كنت زبونا في الأعياد والمناسبات. وأما الثانية، فقد كان لها زبونا بالتقسيط. وبذلك، فهما معا مدينتان له، على الأقل، بأبعد رقم بعد الفاصلة. وأما الثالثة، ثالثة الأثافي التي لم تبرد لي حتى الآن، فهي، لذلك، موضوع هذه الورقة.

من اسم صاحبها جرى نحت اسمها. فـ”أدي” هو اختصار أدولف، و”داس” هو بداية داسلر. لذلك، فأدولف داسلر، بغض النظر عما راكم من ثروة قيد حياته، نجح في خلع اسمه على جسوم كثيرة ومن مختلف الأعمار، جسوم قد تسعى به من أخمص الحذاء إلى أعلى القبعة.

قصة أدولف وشقيقه رودولف تستحق أن تروى، خصوصا أن مشروعهما انطلق من مطبخ البيت ليطبق كل الآفاق، مثلما ينبغي الوقوف طويلا عند دورهما في نجاح العديد من الرياضيين في مختلف المنافسات الدولية على مدى زهاء قرن من الزمان؛ فنجاح أديداس من نجاح من سعوا بها في الملاعب من نجوم قبل أن يسلس لها السعي في كل مكان.

أما قصتي معها فتعود إلى تلك السبعينيات التي بالكاد ترى الآن بالذاكرة المجردة. ففي تلك الفترة، بدأت “الحداثة” تنحدر إلى أزقة فاس العتيقة. فكان أول ما كان منها أن جرى تحويل صالون لحلاقة النساء إلى مقهى عصري يقدم المثلجات وأقماع البطاطس المقلية، ويصدح ببوب مارلي والبينك فلويد والبوني إم، وينتابه الشباب والصبايا من مختلف الأحلام. ولأنه لم يتخذ لنفسه اسما، فقد عرف بمقهى النجارين نسبة إلى الحي الذي يوجد فيه.

غير بعيد عن مقهى النجارين، وفي زقاق الحجر تحديدا، جعلت بعض الدكاكين تخلع جلابيبها، فصارت بواجهات زجاجية وأضواء نيون وأسماء في غاية الإغراء لعل أشهرها على الأطلاق: نيو شوب، ذلك المحل الذي لم أجرؤ على الاقتراب منه والتملي في معروضاته البديعة إلا بعد أن تأكدت تماما من أن الأمر غير مؤدى عنه.

في واحدة من تلك النيوشوبات رأيتها أول مرة، مباشرة وليس على الشاشة، ولو كنت تحليت ببعض الشجاعة لكنت لمستها حتى. أذكر أني لم أستطع أن أحول نظري إلى غيرها، فهي بتلك الأسارير الآسرة التي لها وحدها، الخطوط الثلاثة التي انحفرت في نفسي مرة وإلى الأبد.

ثم بدأت تتجلى.

فإذا هي في حصة التربية البدنية، يرتديها الميسورون من التلاميذ فتعزز منهم المكانة والنقطة عند الأساتذة، وهي شورتات في المسابح والشواطئ، وبدلات لصباح الأحد، وقبعات صيفية وحقائب سفر حتى…

ومع ذلك، لم أدرك منها وطرا، فلا أنا امتلكت منها قطعة ولو يسيرة، ولا أنا استطعت أن أستعير واحدة ممن أدركوا العلا. ولأن إمكانيات العائلة لم تكن تتيح ملابس بأسارير، لم يكن لدي أدنى أمل في أن تنحدر إلي قطعة من شجرتها الوارفة كما يفعل غيرها بعد إخضاعه للتقييف.

هكذا عشت مراهقتي جسدا بلا أديداس.

أما ما ضاعف من حسرتي حقا فهو أنها استشرت، استشرت أديداس حتى اشتراها الجميع، وصار على المرء أن يشيح بوجهه حتى لا يراها. فقد صارت على كل جسد، رياضي أو غير رياضي، وفي كل مكان، مناسب أو غير مناسب، فأدركها حتى البسطاء من أترابي في الحي. وليس ذنبي أن ظننت بهم الظنون؛ فالماركة، التي كانت تظهر في التلفزيون فقط، لا يليق بها أن تقتعد العتبات المتربة في حينا العتيق، اللهم إذا كان وراء الأكمة ما وراءها.

لم تدم حيرتي طويلا. فقد تبددت حسرتي تماما بعد أن انتبهت إلى أن كل تلك الأديداسات من حولي مجرد أضغاث أوهام. فبأم عيني، وقد زالت عنها الغشاوة، قرأت على الحذاء والقبعة والشورت وسواها من القطع النفيسة التي يرفل فيها الجميع، قرأت عليها جميعا اسم أبيداس. فالعبقرية المغربية فطنت إلى الشبه بين باء ودال اللاتينية، فطفقت تحقق الأرباح تلو بعضها بتحقيق أحلام البسطاء بالباء في انتظار أن يحققوها هم أنفسهم بالدال إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

سنوات بعد ذلك، صرت بمنحة فبراتب، لكني لم أفكر في رفع غبن أديداس عن نفسي، إذ من يضمن لي ألا أقع على قطعة منها مزورة، هذه المرة، عن أبيداس، فمن زور تلك قد يزور هذه، فأكون بذلك كمن يقرأ نصا مترجما إلى لغته الأصلية عن ترجمة أجنبية له منها.

لقد سعيت طيلة حياتي بجسد في منتهى الوضوح، فما الذي يجبرني على أن أورطه في لباس بهذا الالتباس؟

ثم كيف لشخص مسالم مثلي أن يدفع لشركة يحمل صاحبها اسما دمويا: أدولف؟

وتلك الخطوط، هل هي أسارير أم محض ندوب أحدثتها مخالب قط كبير؟

مهما يكن من أمر، فلأسباب نفسية على الأرجح، حين تيسرت أموري، وصار بإمكاني أن أمتلك حذاء مرموقا، اشتريت واحدا من بوما لصاحبها رودولف نكاية في شقيقه أدولف وأديداسه. فبوما برمزه الرشيق، قفزة الكوجر، لا يسمح بذلك النوع من الاحتيال. فإذا كانت حيلة الباء قد انطلت طويلا على الدال، فما من كنغر ينطلي على الكوجر.

(بروس لي)

في تلك السبعينيات أيضا بدأت تنتابنا أحلام اليقظة، فلم نكن نجد لها من ظلام متواطئ سوى قاعات السينما، فعلى شاشاتها كنا نشاهد أحلامنا بالألوان، فتخفق أرواحنا لمرأى تلك الأساطير الحية القادمة من غوامض التاريخ والجغرافيا: الهند والصين.

أما الهند، فقد صارت لها مستعمرات في كل الأحياء الشعبية، دكاكين لتسجيل وبيع الأشرطة الهندية. فساحر جهنم، والصداقة، وأمنا الأرض، والحب هو الحياة، على سبيل التذكير، لم تكن بالدروس التي تنسى، فوجب حفظها عن ظهر قلب، لاستظهارها في شؤونه تعبيرا عن الهوى الهندي، فإذا جلس فتى عند عتبة يصدح، فلا بد أن عند النافذة قلبا يصيخ.

وأما الصين، فمستعمراتها كانت أقل عددا وأكبر مساحة؛ لأن الدرس الصيني لا يحتاج إلى الحنجرة فقط، بل يحتاج من الجسد كل الجسد، إذ لا يكفي المرء أن يقلد ذلك المواء الغريب ليصبح مثل بروس لي. هكذا انتشرت قاعات الكراطي والتايكوندو وسوى ذلك من فنون الحرب حيثما أتيح لها أن تفعل.

وإن هي إلا شهور معدودات حتى بدأ تلاميذ تلك القاعات يستعرضون مكتسباتهم في الساحات والحواري، بعد أن يفتعلوا المناسبة لذلك، فيخلع عليهم الأتراب ألقابا تليق بصنيعهم. فكان منهم حميد الخشبة، صاحب القبضة المرموقة، فهي عبارة عن مطرقة ضخمة بأصابع. وقد اشتهر بهذا اللقب لتنكيله بالخشب. وكان منهم عبد الرزاق الكاطا الذي كان ينتهز أي فسحة في الشارع ليقدم بعض الحركات على أنها حروف هجاء اللعبة. أما لقب الشينوي، فكان يطلق على كل من به مس من الصين: شعر أسود ناعم، عيون ضيقة، أو شبه بكومبارس في فيلم معروض…

ولعل المجد، كل المجد، كان من نصيب حينا، ففيه ظهر، لا هذا اللقب أو ذاك من الألقاب الركيكة، وإنما ظهر فيه الاسم بكل جلاله: بروس لي.

لقد كان دريس ولد با علي فتى نحيلا صلب العود، اشتهر منذ نعومة أظافره بخفة اليد، وقضى بسبب ذلك مددا متفاوتة في سجن الأحداث. فهل من قبيل المصادفة أن أطلق في تلك الفترة لقب ولد علي على كل لص؟

مهما يكن من أمر، فبا علي رجل مستقيم، إلا إذا اعتبرنا تعاطي العشبة انحرافا، وأخلاق ابنه تخلقت في الشارع لا في البيت. ثم ها هم ولاد علي في كل مكان، في الحافلة والقيسارية والسويقة وعند كل زحام. فأي علي مزواج هذا الذي انحدر من صلبه كل هؤلاء الخوارج؟

ما من أب بيولوجي لجميع هؤلاء الأولاد، فالأرجح أن لهم أبا رمزيا يقال له علي هو باباهم جميعا، وهو لذلك، دون شك، علي بابا.

لقد جفت مياه كثيرة تحت الجسر، فصار للبلاد لصوص من المستوى الرفيع، درسوا في كبريات الجامعات وأرقى المعاهد، فتقلدوا أعلى المناصب واحتلوا الشاشات وارتخوا تحت القبة حتى، ولا أحد نسبهم إلى علي أو معاوية، مع أن لهم خارج البلاد مغارات مشفرة أين منها مغارة علي بابا، وأن ما يربطهم بها، ما يربطهم بالبلاد أوهى من شعرة معاوية.

لم نعد نسمع، هذه الأيام، لقب ولد علي، فقد التبس الآباء على الأبناء في غير قليل من الحواري والأحياء الشعبية. هكذا أفسح ولد علي المكان لولد مليكة إلى أجل غير ملقب.

هذه الورقة عن بروس لي، ولست أدري كيف استطاع ولاد علي أن يعترضوا ذكره ليكون لهم فيها ذكر، فلو كانوا قد فعلوا في الواقع، وقيد حياته، لذاقوا، حتى النخاع، المعنى الحقيقي لسوء المصير.

دريس، الفتى النحيل صلب العود، كان، لأسباب مهنية على الأرجح، من أوائل من التحقوا بقاعات فنون الحرب. لقد أراد أن يجمع المجد لأطرافه: خفة القدم لخفة اليد. وللأمانة والتاريخ، فقد نجح في مسعاه، إذ صار يتبرسل أكثر فأكثر بعد كل فيلم جديد. فمرة يقوس ظهره كقط، ومرة يزوي عينيه كما يفعل البطل حين يغضب، ومرات يسدد للهواء ركلات يموء لها الهواء… حتى استحق اللقب الذي خلع عليه: “دريس لي”. وكم بدا سعيدا به، كم بدا الفتى سعيدا باللقب الذي خلصه من الاسم المريب: دريس ولد علي.

إن العبقرية المغربية التي دست باء مكان دال في أديداس هي نفسها التي استبدلت الدال بباء بروس لي إمعانا في الضرر لا في جبره. وإذا كان لها من صورة ولا أوضح، فهي صورة دريس لي وهو يقدم عروضه في ساحة الحي ببدلة رياضية من نوع أبيداس. أبيداس أم أديباس؟

(الهايكو)

لم أتمتع قط بجسد رياضي ولا حتى بطموح إليه. لذلك، فعلاقتي بالرياضة لم تتعد الفرجة إلى الانخراط؛ فجنوحي إلى السكون لا إلى الحركة هو ما جعلني أعتنق رياضة من نوع خاص، رياضة لا تحتاج من الجسد سوى شغف الروح.

غير بعيد عن مراتعي الأولى، كانت هنالك الكتب، مرفوعة فوق الرفوف أو مبسوطة على الأرض. وكان باعتها، بسقف أو بدونه، يوفرون لأمثالي حاجتهم الدائمة بتسهيلات تضمن عودتهم فإدمانهم اللذيذ، لما فيه رواج تجارتهم النبيلة التي لم يتوقع أحد يوما أنها ستبور.

القراءة، إذن، كانت رياضتي الوحيدة، وقد ظلت كذلك حتى اليوم؛ لأنها لا تحتاج فريقا بلباس موحد، ولا تتطلب قاعة معلومة، ولا تتقيد بزمن أو مكان… وإنما تقتضي فقط ما هو مكتوب حيثما كتب. هذه الحرية اللامشروطة، مع ميلي الفطري إلى العزلة هي ما جعلني أزج بنفسي في رحابها، إذ إن أضيق ما فيها لهو أرحب عندي مما في غيرها.

كانت القراءة، في بداية عهدي بها، بمثابة الموسيقى المرافقة للحياة. ولعل أترابي في الشغف يتذكرون تلك اللذائذ المفاجئة؛ فكان الواحد منا إذا نزع ورقة اليوم من الروزنامة قرأ خلفها حكمة أو بيت شعر، وإذا فض سبيكة بسكويت طالعه عليها قول مأثور أو عبارة مسكوكة. أما إذا اشترى حفنة من بذور عباد الشمس، فقد يكون له موعد مع ورقة بأسرها من مجلة الموعد، فيقضي معها وقتا ساحرا، لا في القراءة فحسب، بل متمليا جمال نادية لطفي أو حتى جورجينا رزق، وأي رزق.

بمرور الوقت والكتب، بدأت أنظر إلى الكتاب لا كأسماء فقط، بل كقامات وظلال وأساليب، فأميل وأنفر وأستسيغ وأمج… وبذلك، بدأت هويتي القرائية تتشكل في أفق أن تسفر عن هويتي الكتابية، تلك التي تدين بالكثير لريشة الشعر وفرشاته وأزاميله الدقيقة.

لا يذكر الشعر العربي إلا مقرونا بالمتنبي، فلأحمد معجزه هو الآخر. لكنه لم يكن النبي الوحيد عندي. فقد اكتشفت في وقت مبكر نبيا آخر، نبيا متهتكا يقال له أبو نواس يعتنق كل ملذات الحياة. وما إن يممت وجهي شطر جغرافيات أخرى حتى اكتشفت غيرهما من الأنبياء. فإلى هؤلاء جميعا يعود الفضل في اعتناقي للشعر، لا بوصفه ديانة، وإنما بوصفه رياضة: رياضة لكمال الأرواح.

بتأثير عميق من يومية بوعياد وقطع البسكويت وما خط عليها من شذرات غير موقعة، كما بنفس التأثير من تلك الأبيات الشعرية والحكم اللامعة التي كانت تنسب إلى مؤلف مجهول، بات لي حلم وجودي: أن أتقلص شخصا ونصا، شخصا حتى أصير لا أحد، ونصا حتى أكتب في كلمتين ما يضيق عنه كل كتاب. فعندي أن العالم قد يعيش بدون هوميروس على شهرته والإلياذة على خلودها؛ لكني لا أستطيع أن أتخيل كيف سيحيا العالم بدون تلك العبارة السحرية التي سكها شاعر مجهول، فترجمت إلى كل اللغات، وأصبحت تجري على الألسنة مجرى الريق، تلك العبارة التي يقول نصها الكامل: “صباح الخير”.

وبروس لي؟

بروس لي، بالنسبة إلي، كان شاعرا يستحيل تقليده. ومع أن لقب الشاعر خلع على أميتاب باتشان بوصفه طاغور السينما الهندية، فبروس لي كان شاعرا أيضا، شاعرا بليغ الجسد. ولأن لي جسدا بلا طموح، فقد رأيت في بروس لي السبابة التي تشير إلى ذلك الشرق الأصفر، الذي سأدرك لا حقا أنه كذلك، لا من شحوب، وإنما من فرط الذهب. فهناك، للجبل ضجيج وللظل مديح وللقناع اعترافات ولمنتهى الحكمة أسلاف بلا أسماء…

لقد كانت الكتب عندي بمثابة أجنحة سحرية، كل مرة أحط بها في أرض غريبة. لكن، حين حطت بي في ذلكم الشرق الحكيم، أيقنت حقا أنه يقتطع لنفسه حصة من الشمس مع كل شروق، ثم يصوغها حليا من ذهب، فإذا هي تسعى في إهاب الأدب. ولعل الألمع بينها جميعا هو الهايكو، كيف لا وقد بات له بريق خادع في كل اللغات.

يتميز الهايكو بنواة طبيعية وبأسطر ووحدات صوتية معلومة، وذلك مما هو مقدور عليه في غير ما لغة. سوى أنه يكتب بلغة محايدة لا يجيد الياباني غيرها ولا يجيدها غيره، وكأنها آلة تصوير تتنفس. فعندها، مثلا، أن الغراب صغير أو كبير أو أسود، وهذه من صفاته، فلا تضفي عليه من خارجه، بينما لا تستطيع واحدة غيرها أن تنظر إليه دون أن تغمز له من قناة حفار القبور.

فكيف للغة العربية، على سبيل الإجلال، أن تراود الهايكو عن نفسه وهي لغة مغرضة؛ بل إن ديوان أهلها نهض أساسا على الأغراض؟ وكيف للشاعر العربي، وله من الأنا ما له، أن يسمح لفراشة، مجرد فراشة، أن تكون هي الشاعرة في قصيدته لا هو؟ وهذه الترسانة البلاغية الرهيبة، هل هي للزيز والضفدع واليعسوب؟

مع كل واحد من هذه الأسئلة وكثير غيرها، كنت أبتعد فراسخ عن كتابة الهايكو؛ فالهايكو إبداع ياباني صرف لا يمكن تقليده في أي لغة، مثلما لا يمكن تقليد المعلقات والموشحات والمقامات حتى في اللغة الصينية.

الهايكو ليس شكلا فقط، فيقلد أو ينتحل. إنه جوهر فريد، والجوهر يتخلق. وما يتخلق في رحم الظبية غير ما يتخلق في رحم العنزة.

ثم كان أن استشرى.

استشرى الهايكو في غير مرعى شعري حتى تشابه علينا الماعز. وإنه لمن سخرية الأقدار أن تعرفت مرة على عنزة لجدتي رحمها الله، وهي عبارة عن مثل دارج، كانت تسعى كظبية عربية في قطيع هايكو لأحد الرعاة. فهل كانت جدتي، على سبيل الرحمة، شاعرة هايكو دون علمها، أم أن قدره، قدر الهايكو من قدر الشمس: أن يبزغ من هناك ليأفل هنا؟

وأديداس؟

يا إلهي، كدت أنسى أديداس، وها هو الهايكو يذكرني بها. فالأسطر الثلاثة للهايكو هي على الأرجح السلف الشعري لخطوط أديداس الثلاثة. لذلك، فالهايكو عندي هو أديداس الشعر حتى قبل أن يولد أدولف داسلر بقرون.

وكما تشابه علينا الباء والدال والماعز، فإن حرف الميم، في العربية كما في اللاتينية، قد انتبذ مكان الهاء، فصار للشعر أبيداسه أيضا.

فلا عجب، إذن، أن بات لدريس لي، الذي كان يزوي عينيه ويسدد للهواء، أشباه بلا حصر في كل ساحة يزوون حروفهم ويسددون للورق.

The post الشاعر سعد سرحان ينتعل "أديداس" ويقاتل "بروس لي" وينثر "هايكو اليابان" appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/IsrZiBk

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire