باحث يستحضر تازة في "رحلة دوزيكونزاك".. طبيعة خلابة ومدينة محاصرة

قال عبد الإله بسكمار، أستاذ باحث رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث، إن “رحلة دوزيكونزاك انطلقت من بويبلان وبوناصر جنوب تازة، وهو ما يشكل عمق الأطلس المتوسط الشرقي، وصف خلالها المشاهد التضاريسية التي يغلب عليها التشكيل الجبلي، وبعض الهضاب والتلال والمنحدرات، وكذا أودية المنطقة، خاصة واد مللو ثم وادي البارد وملوية، وحالة الساكنة التي تمثلها مجموعة بني وراين، من حيث الهندام والسلوك العام والجانب الاقتصادي وبعض مظاهر الرأسمال الرمزي…، كل ذلك وصاحبنا متنكر وسطها في زي تاجر مغربي”.

وأضاف بسكمار، في الحلقة الثانية من مقاله المعنون بـ”تازة في رحلة دوزيكونزاك: طبيعة خلابة ومدينة محاصرة”، أن “أهمية المدينة تعود لموقعها الجغرافي بين فاس عاصمة الإمبراطورية، وتلمسان عاصمة مملكة الشريف يغمراسن رئيس بربر زناتة ومؤسس سلالة بني زيان”، مستدركا بأن “المدينة في غشت 1901 مجرد ركام من الأنقاض، مدينة بئيسة محاصرة على الدوام، تتعرض للنهب كل يوم، هي رهينة في يد غياثة الذين يغرمونها ويعاقبونها بدون رحمة ولا شفقة”.

وختم رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث مقاله بأنه “مع كل هذا، فهؤلاء البؤساء يستطيعون إيجاد الوسائل المناسبة لممارسة التجارة والصناعة التازية، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى تكوين ثروات أيضا رغم أنف المعتدين، أي الفروع المحيطة بالمدينة التي تحاصرها على الدوام”.

وهذا نص المقال:

قدمنا في القسم الأول من هذا المقال أشواط الرحلة الثالثة التي قام بها الضابط والكاتب والمستكشف الفرنسي الذي جمع بين المهام العلمية والجاسوسية معا لوماركيز دوزيكونزاك (Le Marquis De Segonzac) عبر أعالي ملوية وشرق الأطلس المتوسط وصولا إلى تازة، وامتدت من 30 يوليوز 1901 إلى غاية 21 غشت من السنة نفسها، علما بأنه أرخ رحلاته الثلاث ضمن كتابه “أسفار في المغرب” (VOYAGES AU MAROC)، وقد صدر الكتاب في طبعة أولى سنة 1903، وهو المؤلف الذي احتفت به الأوساط الاستعمارية الفرنسية مثلما احتفت قبله بكتاب “التعرف على المغرب” (RECONNAISSANCE AU MAROC) لبلدي دوزيكونزاك الراهب الجاسوس شارل دوفوكو، رغم ما لوحظ حول الطابع الشمولي لكتاب دوفوكو مقارنة بمؤلف دوزيكونزاك الذي سجل بعضهم أنه ركز على البعد الجغرافي التضاريسي، وهذه الملاحظات لا تكتسي في نظرنا أهمية كبيرة دون الرجوع إلى محتويات الكتاب وتحليلها تبعا لزاوية المعالجة. ومع كل هذا، نؤكد الطابع التوثيقي التاريخي لمؤلف “أسفار في المغرب” باعتبار الملاحظات والإشارات الدقيقة والذكية أحيانا التي وردت في أكثر من موضع عبر يوميات الكتاب نفسه.

لقد انطلقت رحلة دوزيكونزاك من بويبلان وبوناصر جنوب تازة، وهو ما يشكل عمق الأطلس المتوسط الشرقي، وصف خلالها المشاهد التضاريسية التي يغلب عليها التشكيل الجبلي، علاوة على بعض الهضاب والتلال والمنحدرات وكذا أودية المنطقة، خاصة واد مللو ثم وادي البارد وملوية، وحالة الساكنة التي تمثلها مجموعة بني وراين، من حيث الهندام والسلوك العام والجانب الاقتصادي وبعض مظاهر الرأسمال الرمزي، وكذا الدور الكبير الذي لعبه شريف وزان باعتباره قائد القافلة، كل ذلك وصاحبنا متنكر وسطها في زي تاجر مغربي، ويسجل كل صغيرة وكبيرة في يومياته، واستمر على هذا المنوال في الوصف وتقديم انطباعاته حتى وصل إلى منطقة كلدامان معقل غياثة، التي تقع هي الأخرى جنوب شرق تازة، حيث استقبل حشدٌ من فرسان القبيلة القافلةَ ورحبوا بها.

في يوم 09 غشت 1901 وصلت القافلة إلى كلدامان، وكان أول مشهد سجله دوزيكونزاك يتمثل في الشكل نصف الدائري الذي تحتله الجبال العارية للمنطقة، التي تبدو شرسة، خاصة حين تلونها السماء ببهاء وردي، وهي تحيط بحدائق كلدامان (تعني كلمة “كلدامان” في اللهجة المحلية: ملك الماء) وفي أقصى نصف الدائرة إياه ينتصب جبل واريرت وسلسلة أهل الدولة. وهاتين الكتلتين تصل بينهما تلال “لرنب” أو تلال الأرنب المخترقة من ممر أزكور. هذا المشهد الذي يذكر بالبنايات الدائرية للمسارح الشامخة، يطل على صحراء “الفحامة” العارية (كان الوقت صيفا وهو موسم الحصاد وبالطبع تبدو المشاهد لدوزيكونزاك أقرب إلى مناظر الصحراء، ونسجل أن منطقة الفحامة خصبة على وجه العموم) مع سلسلة جبالة (يقصد تلال مقدمة الريف المحاذية للفحـامة).

تمتد كلدامان عند قدم جبال أهل الدولة (أحد فروع غياثة الست)، هي مساحة شجرية حيث تشرئب عبرها قرى: بني سقلاب، عبودان، بني محسن وبني احمد. الأشجار المثمرة تعكس ظلالا قاتمة، بينها أشجار الزيتون ذات الأوراق الفضية. مساحات الذرة وما يشبهها تنحدر باتجاه الهضبة عبر سجادات مزركشة، تنتشر عيون المياه في كل أرجاء المنطقة، مجاري مياه عذبة تتدفق في جميع الاتجاهات.

غياثة قبيلة كبيرة، أصلهم بربري (leur origine est berbère) وهم يتناسون تلك الأصول أو قد ينفونها بالمرة، ويقولون عن أنفسهم إنهم عرب، وفي الهامش يفيد دوزيكونزاك بأن غياثة ورد ذكرهم عند ابن خلدون باعتبارهم من أولى القبائل البربرية التي ساندت المولى إدريس (الأول) وقد حاصروا معه مدينتي لبهاليل ومديونة اللتين كانتا على الديانة المسيحية.

باستثناء فرع أهل الدولة القاطنين بالجبل الذين حافظوا على تقاليدهم، وقد اشترك أهل الدولة مع بني وراين في المصير نفسه وكذا في التواصل باللغة الأمازيغية، (باستثناء هذا الفرع) فأغلب بطون غياثة وفروعها تتكلم اللغة العربية العامية المحتوية على الكثير من الألفاظ الفصيحة.

يروي مسنو القبيلة أن غياثة كانوا يقيمون في الماضي بالجبل، وشيئا فشيئا وتحت تأثير مزاحمات بني وراين وجاذبية الهضبة وإغراء مدن تازة التي أغرموا بها، ويتعلق الأمر بمكناسة التحتانية ومكناسة الفوقانية علاوة على حاضرة تازة بالطبع، بفعل كل تلك العوامل أزاحوا مكناسة عن المجال (نحو الشمال شيئا فشيئا) وسيطروا على تلك المدن، تاريخ غياثة عبارة عن معركة أبدية (Une perpétuelle bataille) وأحدث انتصار لهم كان على السلطان مولاي الحسن (الأول) في 1875 (حدثت الواقعة بالأحرى في يوليوز 1876) قرب تلال بوكَربة، حيث قتل فرس السلطان خلال الهجوم المفاجئ لغياثة على جيشه، كما أنه فقد حريمه في حمى المعركة الشرسة، علاوة على حاشيته المرافقة له وجزء من جيشه، ومن ذلك الحين أعلن غياثة خضوعهم بعد قصف مداشرهم بالمدافع، ولكن مع عدم مغامرة أي من موظفي المخزن أو مسؤوليه بالإقامة أو حتى مجرد الوجود وسط القبيلة. وفي المقابل، كان السلطان يراقب غياثة بواسطة أحد عملائه السريين، المتمثل في شخص شريف مسن من عائلة وزانية (نسبة إلى مدينة وزان أو ما كان يوصف عند مغاربة الفترة بدار الضمانة)، هو السي عبد الجليل (يحتمل أن يكون هو نفسه صاحب الضريح بمقبرة تازة المعروفة، وهناك ضريح آخر على بعد نحو ستين كيلومترا غربا يحمل اسم سيدي عبد الجليل بمنطقة مطماطة)، الذي ظل يقيم تارة في كلدامان وتارة في حوض إيناون، وهو يتمتع بهيبة دينية كبيرة في الناحية.

حكى لنا هذا الشريف الوزاني-والكلام لدوزيكونزاك-أن أحد فروع كلدامان بني محسن كانوا يدينون بالنصرانية، وأفرادها يأكلون لحم الخنزير ولا يتبعون تعاليم القرآن، كما لا يصومون رمضان، ومن مظاهر تدنيسهم للمقدسات الإسلامية (المغربية) أن بنوا قبة على قبر كلب (سلوكَي) وأسموه سيدي البودالي، لكن جيرانهم وفروع غياثة الأخرى ما فتئوا يحتقرون بني محسن وينعتون وليهم هذا بـ “سيدي كذوب” (…) على سبيل السخرية، ويشاع أيضا أن سيدي البودالي المذكور كان وليا صالحا اتخذ من أحد المنشقين اليهود خادما له، وهذا اليهودي كان يكتب خلسة “وحيا” لدين جديد، ولما مات سيدي البودالي أسند أمر هذا الدين لخادمه اليهودي، ومن هنا يتبع بنو محسن ديانة هذا اليهودي نفسها، ويطرح دوزيكونزاك علامة استفهام كبيرة حول معتقدات بني محسن هؤلاء، ولم ير غرابة في ذلك، ما دامت تظهر في فترات تاريخية ومناطق محددة (الجهات البربرية أساسا) بعض النحل أو المعتقدات التي لا تمت للإسلام بصلة كبني عبد الواد قاطني مزاب وبعض ساكنة جزيرة جربة التونسية، وينبغي التذكير هنا أيضا بالنحلة البورغواطية التي استمرت في منطقة تامسنا (على الشاطئ الأطلسي بين سلا وواد أم الربيع) طيلة أزيد من أربعة قرون وحاربها المرابطون ثم استأصلها الموحدون.

في يومية 10 غشت 1901 أفاد الرحالة بأنه خلال ليلة أمس وقع نقاش بين كبار المضيفين من غياثة، وفي صباح اليوم لوحظ أن معسكر القوم شهد صخبا كبيرا وحوارا متشعب الأطراف.

كثير من رجال غياثة يرتدون جلبابا مخططا بالأسود والأبيض، ما يكشف نوع المجاورة مع الريف وفاس (يقصد القبائل المجاورة لفاس)، الفرسان يركبون خيولا مكشوفة، يرتدون ثوبا من الصوف مناسبا للراجلين أساسا، كل الرجال مسلحون بخناجر، ويحيطون معاصمهم بأحزمة مليئة بـ”كارتوشات” معدنية، هؤلاء فرسان يستعينون ببرادع جزائرية مزخرفة عبر جيبين من صوف مشرشف بتنميق جميل، وكلهم يتحادثون ويتكلمون بالعربية.

في اليوم الموالي خصصت كلدامان ثلاثين رجلا يمتطون الخيول من أجل حماية وحراسة قافلتنا، ومن جهتها أرسلت متركات خمسين من الرجال لأجل استقبالنا، وكان من الواجب الاستجابة لـ “استعراض القوة” هذا بقبول دعوة الضيافة التي يحملها هؤلاء.

لهذا خيمنا عند منحدرات وادي ورغة في مقابل ممر أو فارق مكناسة (trouée) وسط أحد بطون بني وجان من غياثة، ويتعلق الأمر بـ”متركات” المقيمة جنوب شرق مدينة تازة، ومن ثمة قطع القوم يوم 12 غشت مسافة ما قدرت بساعة زمنية حيث وجدوا أنفسهم وسط فرع بني بوقيطون من غياثة وبالضبط بقرية جعونة، وإلى الشمال-يضيف دوزيكونزاك- يفصل منحدر تازة-امسون بيننا وبين جبالة والريف (يقصد تلال مقدمة الريف وأراضي مكناسة والبرانس والتسول ثم كزناية)، وحيث الخطوط المتقلبة تنتظم عبر ثلاثة مجالات مستقيمة متجهة نحو الشرق والغرب وفي الجنوب تَحُد سلسلة كلدامان من هذه الانحدارات عبر الممر الذي يعبره واد بولجراف، في أحد تلك المنحدرات الرعناء ترتفع أبنية تازة، وهي المدينة التي تقطع المجال نصفين وتتحكم في المرور، وواقعيا فالمدينة رغم كل هذا تجبر القوافل الراغبة في تجنب عبور أراضي غياثة على ترك الطريق المباشر الرابط بين فاس، تازة ووجدة من أجل التوجه عبر قصبة امسون إلى مكناسة الفوقانية عن طريق الجبل، ومن ثمة المرور بأراضي التسول فالحياينة ثم الزرارقة وصولا إلى فاس.

تازة متمركزة جيدا عند مؤخرة الأطلس المتوسط تبدو كمدينة كبيرة منغلقة داخل أسوارها البيضاء غير القابلة للاختراق على مستوى ثلاثة اتجاهات (الشرق والغرب والشمال أما الجنوب فيعتبر منفتحا مجاليا، ولذا تم تحصينه بواسطة خندق ما زالت معالمه ظاهرة إلى حد الآن ويعزز الأسوار المزدوجة من هذه الناحية)، والمدينة منتصبة من الشمال الغربي والجنوب الشرقي وتمتد على حوالي ألف وخمسمائة متر (1500م) طولا، واجهتها الشمالية الشرقية تناسب مجاليا حوض واد الهدار، بينما واجهتها الجنوبية الشرقية تهبط عبر منحدر حاد وتشرف على وادي أنملي ويطل الجسر الشمالي على طريق وجدة – فاس بعلو حوالي مائة وثلاثين مترا (130 م).

بعد عبورنا واد أنملي (ويبلغ عرضه مترين في الحيز الذي اجتزناه)، وهو واد يزدهي بعدد لا يحصى من قنوات مياه السقي، الشفة الجنوبية بها ما يشبه النقوش، وهي ترتفع بثمانين مترا (80 م)، الطريق يؤدي إلى قدم بناية ضخمة ذات شكل مربع متناه في الفخامة والامتلاء يسمى “البستيون” (el Bastioun)، وهو الذي يقوم على قاعدة صلبة (solide plate-forme)، حيث يستطيع المدافعون عن الحصن الإجهاز على المهاجمين، توجد عدة فجوات ضيقة وعميقة تتيح للمدفعية (المعروفة بدءا من القرن السادس عشر) أن توجه قذائفها نحو الجنوب والشرق.

الأسوار المحيطة بالمدينة بنيت بالآجور المسطح على وجه التقريب، وهي تصل إلى متر عرضا وتعلوها طبقة من الجبس مفروشة بلون بني، ويشكل البستيون الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة، وهو يعد جزءا من قلعة تشمل واجهتها ثلاثة أبراج حربية نصف مهدمة (حاليا)، الأسوار تنهار، فيما العشب والحشائش يملآن الثغرات، والبستيون في واجهته الشرقية يطل على الجبل، وتمتد عبره ثغرة أحدثتها إحدى قذائف الجيش السلطاني المخزني سنة 1828 (على عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام) فيما يبدو أنه حركة سلطانية لإخضاع قبائل المنطقة عبر المدينة ذاتها.

أحيطت تازة بأسوار واطئة. تتخللها أربعة أبواب: باب قبون (Qebboune)، ولعله يقصد باب القبور قرب البستيون، إلى الشمال قليلا يوجد باب الجمعة، وفي الحيز الشمالي الغربي يوجد باب الريح ثم باب طيطي في الجنوب.
تكسو الحدائق المنحدرات الشمالية الشرقية فضلا عن الهضبة التي تحتوي تازة في الأطلس المتوسط.

هذا الحيز الأخير من الحدائق يحيط به تحصين قديم مشيد بالخرسانة، وهو من المفترض أن يكون في الأصل عبارة عن منشأة ضخمة بناءً على مؤشرات ما تبقى من أطلال وخرائب، ونستطيع مشاهدة بقايا الأبنية قرب واد أنملي، ويعتقد السكان أنها آثار رباط تازا، والمدينة واحدة من سبع عواصم للإمبراطورية المغربية، وفي القرن الثامن الميلادي هُزم مولاي الحسن، الملقب بالحجام، حفيد المولى ادريس الثاني، تحت هذه الأسوار على يد موسى ابن أبي العافية، (سؤال تكامل مجال تازة كموقع محصن خلال هذه الفترة، أي القرن الرابع الهجري حيث يعتقد بعضهم أن “مكناسة تازة ” تأسست خلاله)، ومازال اسم موسى بن أبي العافية متداولا في الرأسمال الشفوي لبعض التازيين المسنين، فيطلقون على منتسبي قبيلة مكناسة المتسمين بحدة الطباع “زريعة بوعافية”، وموسى هذا هو رئيس بربر مكناسة ومؤسس السلالة المكناسية (الزناتية) التي لم تعمر طويلا (دامت إمارتهم من حوالي 304 هجرية إلى منتصف القرن الخامس الهجري حيث قضى عليهم المرابطون).

هذه الحاضرة العريقة تمتد – كما قيل لنا هنا – من حجرة كناوة إلى قرن النصراني ومديونة (؟؟)، وقد أطلق عليها الاسم الرمزي مدينة النعاس، أي المدينة النائمة، ولعل المقصود هنا أن المسافرين والعابرين للمنطقة ينامون ويستريحون بمدينة تازة، قبل استئناف طريقهم غربا أو شرقا، وذكر لنا أحدهم أنها بالأحرى مدينة النحاس، وهي موقع خرافي ورد في بعض المضان والحوليات العربية، خاصة في فترة فتوح المغرب على عهد موسى بن نصير، ويقال إنها وجدت بالأحرى بين طنجة وتطوان وبناها جن سليمان، وكانت كل منشآتها ومبانيها من النحاس، وهذه التسمية علاوة على عدم دلالتها على أي شيء تاريخي، فهي أيضا تحيل على احتمال ضعيف جدا بالنسبة لتازة، إذ لم تسجل أية علاقة للمدينة بالنحاس فضلا عن أن تسمى به.

أهمية المدينة تعود إلى موقعها الجغرافي بين فاس عاصمة الإمبراطورية (يقصد بني مرين) وتلمسان عاصمة مملكة الشريف يغمراسن، رئيس بربر زناتة ومؤسس سلالة بني زيان (أو بني عبد الواد)، وهذا الموقع يعد امتيازا لها وفي الوقت نفسه عنوان شقائها، وكان ليون الإفريقي (Leon L’Africain) (الحسن بن محمد الوزان الفاسي الغرناطي) قد افتخر بازدهارها في منتصف القرن السادس عشر، واحتفى علي باي (Domingo Badia y Lebblich)، المغامر والجاسوس الإسباني، بجمال تازة في بداية القرن التاسع عشر، فيما لاحظ دوفوكو أنها تعيش وضعية تدهور وقد تخرب نصفها تقريبا سنة 1881م.

المدينة اليوم (غشت 1901) مجرد ركام من الأنقاض، مدينة بئيسة محاصرة على الدوام، تتعرض للنهب كل يوم، هي رهينة في يد غياثة الذين يغرمونها ويعاقبونها بدون رحمة ولا شفقة، فيقطعون مجاري المياه التي فيها حياتها، وحينما تفرغ الصهاريج (في المنازل) ويموت الناس عطشا، تبيع غياثة المياه الضرورية للحياة البشرية.

حينما تحصد المحاصيل ويبدأ موسم جني الزيتون، يغلق بنو بوقيطون المدينة تماما، لا يخرج منها أحد إلا بإذن هؤلاء وأن يكون مرفقا بزطاط (عموما هو الحارس أو المرافق أثناء السفر)، وفي موسم الشتاء يختطف بنو بوقيطون الأطفال ولا يطلقونهم لأهلهم إلا بعد أداء قدر مالي معلوم.

تبدو على ملامح ساكنة تازة آثار الإحباط والبؤس نتيجة مظاهر الجبروت المذكورة، وجوههم بيضاء لكن نظراتهم مغروزة في تلك السحنات العليلة التي عزلت أصحابها عن العالم بعيون غائرة، وأغلبهم مصاب بالتهابات جلدية، والأطفال تسلطت عليهم القروعة والجرب، وهذا الأخير يصيب النساء أيضا، وحالات الشلل كثيرة، وأعداد الشحاذين في تزايد مستمر.

ومع ما في هذه الأوصاف من مبالغات تنم عن روح استعمارية واضحة وفق معادلة معلومة قوامها ضعف بنيات المجتمعات المعنية وانتشار الأمراض والجهل ومظاهر التخلف، وضرورة حمل “مشعل الحضارة” لتلك الشعوب والمجتمعات من طرف القوى الاستعمارية الصاعدة، فإن جزءا مهما من الصورة إياها كان واقعا معيشا لم تعان منه تازة لوحدها خلال هذه الفترة، بل شمل كل مناطق البلاد ببواديها وحواضرها، فقد تراجعت أساليب المجتمع المغربي في التصدي للأمراض والأوبئة بتزامن مع فشل كل محاولات الإصلاح التي اضطلع بها السلطانان المولى محمد بن عبد الرحمان والحسن الأول، علاوة على تفشي ظواهر السيبة وانعدام الأمن وتراجع الجهاز المخزني باطراد، وتناسب كل ذلك لسوء الحظ مع المناورات الاستعمارية الأوروبية والفرنسية، خاصة بعد احتلال الجزائر وبداية التغلغل داخل التراب المغربي بذرائع متعددة ومختلفة.

ومع كل هذا، فإن هؤلاء البؤساء يستطيعون إيجاد الوسائل المناسبة لممارسة التجارة والصناعة التازية، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى تكوين ثروات أيضا رغم أنف المعتدين (…)، أي الفروع المحيطة بالمدينة التي تحاصرها على الدوام.

The post باحث يستحضر تازة في "رحلة دوزيكونزاك".. طبيعة خلابة ومدينة محاصرة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/WhMBVJf

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire