الحجمري يعيد قراءة رواية "دون كيشوت".. روح بطل مهووس بمعرفة العالم

1

تَعْتبرُ مُجمل الدراسات المتعلقة بنظرية الرواية نصّ “دون كيشوت” تأسيسيا بكلّ المعاني؛ والظاهر أن اعتبارا من هذا القبيل عادة ما يعجّ بالأسئلة الراصدة لتحوّلات قيم المجتمع وتجارب الأفراد، ويفتح الاهتمام بكل بحث يسعى إلى استعادة ما يفترض أن يكون ثابتا في الحياة كما في الكتابة. ولما كان انتقال سؤال الكتابة من زمن الملحمة إلى زمن رواية الفروسية لافتا لِنَظر مُنظري الرواية، فقد اعتبر نصّ سرفانتس “دون كيشوت” علامة بارزة في السّرد الإنساني.

وضع سرفانتس في “دون كيشوت” خبرته في الحياة، ومعاينته لعوالم الواقع المهملة وغير المهملة يصوّرها فارسٌ جوّال مُحب للمغامرة بنُبلٍ إنساني.

حين نعيد اليوم قراءة “دون كيشوت” تتبدّى لنا صورة بَطل مهووس بمعرفة العالم؛ روح مغامرة وغير منعزلة عن عالم التجربة في أدق تفاصيله. لروح البطل، إذن، إحساس عميق بشرط الوجود، وهذا سبيل لخلق شكل للكتابة يستمدّ فاعليته من حرية الإبداع، والتخلص من سلطة الأدب الملحمي.

من هذا المنظور يعتبر نص “دون كيشوت” تأسيسيا، مثلما يمكن اعتباره أيضا نصا إشكاليا.

تستحضر صورة العالم في “دون كيشوت” عدة تلوينات تلملمها خطية سردية متواصلة ومتعاقبة. فقد كتب سرفانتس حكاياته رغبة في معرفة العالم، وبحثا عن كينونة تعبّر عن حاجاتها في تجاوز كل ما هو مبتذل: لم يعد فهم صورة العالم في حاجة إلى ملحمة، ولكنه أصبح -مع سرفانتس فقط- في حاجة إلى رواية.

ولعلّ ما يجعل نص “دون كيشوت” نصا إشكاليا هو زمن سرفانتس نفسه. وهذا ما أكده جورج لوكاش في صفحات مضيئة من كتابه “نظرية الرواية”. فقد كان زمن سرفانتس آخر عصر من عصور المطامح الغيبية المعيشة فعلا وواقعا، مطامح أضحتْ محرومة من غايتها، وهي رغم ذلك عجيبة وآسرة. ولذلك، يتمثل أعمق ما وصل إليه سرفانتس، في عمله الأدبي، هو تحويل البطولة الأشدّ صفاء من حكاية جادة إلى أخرى مُضحكة…

2

زرتُ منذ سنوات المنزل الذي ولد فيه سرفانتس بِـ Alcalá de Henares، وقد أصبح اليوم متحفا بسيطا مثالا للعمارة القشتالية، يعيد بمحتوياته إنتاج منزل عائلة ثرية تنتمي للقرن السادس عشر. حول المنزل فناء جميل، بينما الداخل مُزين بأثاث عتيق وأدوات منزلية، تشخص بصدق الحياة اليومية في ذلك الزمان: غرفة الكتابة، والمطبخ، وغرفة الطعام، والنوم. لقد احتفظ البيت بأسلوبه الأصلي الأثاث النموذجي لمنزل بورجوازي يعود للقرن السادس عشر. كما يشتمل المتحف على بعض إصدارات دون كيشوت بالعديد من لغات العالم التي ترجم إليها هذا النصّ.

بوُقوفي على تلك الترجمات، خطرت ببالي ترجمات عربية لدون كيشوت كنت قد قرأت فصولا منها لكل من عبد العزيز الأهواني وقدم لها وراجعها حسين مؤنس (ابن طه حسين في ما أحسب)، وأخرى لعبد الرحمان بدوي وثالثة لسليمان العطار؛ كما تذكرتُ محاولة أخرى مغربية للفقيه التهامي الوزاني، صاحب الزاوية وسليل الثقلين، حين عرَّب الفصول الثمانية الأولى من الجزء الأول سنة 1946، ثم قام بمراجعتها في ما بعد سنة 1950، نشر مقاطع منها على صفحات جريدتي (الريف) و(بريد الصباح) مطلع الخمسينات من القرن الماضي.

أتساءلُ: ألا يشبه زمن سرفانتس زمننا الطافح باللاجدوى واهتزاز القيم؟

في علاقة بهذا السؤال، يمكن القول إن قراءة “دون كيشوت” أساسية من أجل فهم القضايا العامّة المصاحبة لتشَكُّل الرواية المعاصرة، وتخطّي الأحلام المستحيلة التي بشرت بها روايات الفروسية، كل ذلك من أجل تبيُّن علاقة السرد الحديث بكل ما هو جوهري وظرفي في العلاقة بالعالم الجديد.

رأى الجزء الأول من “دون كيشوت” النور حين اقترب سرفانتس من السّتين من عمره؛ لم يكتب سرفانتس نصه إلا في مرحلة متقدمة من حياته، لأنه كان يعلم أن الصلة الوثيقة بين ابتداع الحكايات وأهمية التصاقها برحابة التجربة وعنفوانها.

يعلم المتخصصون في أدب سرفانتس أنه كان أيضا شاعرا على نحو مُعاصريه من كتاب الرُّومانس. بيد أن عددا من أشعاره طواها التلف والضياع، وما وصلنا منها من أبيات متضمن في الأشعار المتخللة لقصصه وروايته. كان سرفانتس مشغولا أيضا بتلك الحاجة إلى القصيدة: في عام 1614، أي سنة واحدة على صدور الجزء الثاني من “دون كيشوت” نشر سرفانتس “رحلة البرانس”: قصيدة من ثمانية فصول، ومقاطع ثلاثية متناغمة بملحق نثري يقرن تخيل رحلة ميثية طويلة بيوغرافية- سيرية تظهرها العديد من المقاطع الشذرية.

لقد جاء سرفانتس إلى عالم التخييل مزودا بتجربة في الحياة والكتابة، وبافتتان الكاتب المتحرّر من كل قيد ضاغط موروث من بلاغة الفروسية. لذلك، كتب “دون كيشوت” من غير الاستناد إلى وصفة جاهزة في الكتابة؛ فالحكاية لديه فسيفساء من الرواية الرعوية وسرود الفروسية والخرافات العجيبة.

فهل كان سرفانتس يعلم أنه يكتب نصا تأسيسيا ومتكاملا ستدعوه نظرية الأدب، في ما بعد، رواية؟

رُبّما نعمْ، رُبّمَا…

The post الحجمري يعيد قراءة رواية "دُون كِيشوت".. روح بطل مهووس بمعرفة العالم appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/5bvCeGE

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire