بعد حياة مديدة، دافع فيها عن استقلال موريتانيا، وتعميم التعليم، وألف خلالها عشرات الكتب، وتقلد مناصب مهمة منذ أول حكومة موريتانية، وبعد دفاع، في السنوات الأولى للاستقلالات المغاربية، عن اتحاد موريتاني مغربي، ودفاع مستمر عن الاتحاد المغاربي، رحل عن دنيا الناس العلامة محمد المختار ولد ابّاه، بعدما ولد في سنة 1924.
وتنشر هسبريس مقتطفات من السيرة الذاتية للفقيد، التي أصدرها سنة 2022 ضمن دفتي كتاب بعنوان “رحلة مع الحياة”.
2/3
“أعوام الرباط”
يحكي محمد المختار ولد ابّاه قصة قدومه إلى القاهرة المصرية للالتحاق بالأمير فال ولد عمير والدَّي ولد سيدي بجواز سفر مصري، ثم علمه بعزمهما الالتحاق بالمغرب. كما يحكي لقاءَه عبد الخالق الطريس، الذي كان سفيرا للمغرب بالقاهرة، قائلا: “قابلنا بكثير من الحفاوة والإكرام، مؤكدا لنا أن المغرب لا يعتبر استقلاله تاما ما لم تتحرر جميع أراضيه، وأنه على كامل الاستعداد لمساعدتنا على كل ما من شأنه التعجيل بحرية موريتانيا من الاستعمار الفرنسي”.
وكتب ولد ابّاه عن أول لقاء له بالملك محمد الخامس، واستماعه لخطاب قال فيه: “إننا لم يكن يخامرنا شك في تعلق أهل موريتانيا بنا وحنينهم إلينا، فمنذ قرون طويلة ونحن وإياهم شيء واحد، ألّف بين قلوبنا الإسلام، ووحدت ألسنتنا اللغة، وجمعتنا سلالة واحدة وطبائع متشابهة، وضمّنا جميعا وطن مشترك بيننا: هذا المغرب العربي. ولقد صادف وصولكم إلينا وقتا اشتد فيه اهتمامنا بحدود بلادنا واسترجاع الأجزاء المغتصبة منها بغير حق، ولا ينازع أحد في أن الحدود الحالية ليست تاريخية ولا طبيعية، ولا تطابق حتى الحدود التي كانت للمغرب سن 1912 (…) وإننا نرغب في حل هذه المشكلة عن طريق مفاوضات نأمل أن تكون مقرونة بحسن التفهم والاستعداد، ولن نتوانى -بحول الله- في العمل على إرجاع الحق إلى نصابه”.
وزاد الكاتب: “بعد نهاية اللقاء الرسمي، دعانا إلى حديث خاص اتسم بكثير من مشاعر الود الأبوي؛ فكان يسألنا عن أحوال البلاد، ويستفسر عن أوضاعهم المعيشية، ويؤكد لنا أن ترحابه بقدومنا وبِشره بنا لا يقتصر على الموقف السياسي؛ ولكن لإحياء العهود مع أبناء شنقيط الذين يحتلون مكانة خاصة في قلبه، وعند أسلافه العلويين الذين ما فتؤوا يسعدون باستقبال الوافدين من هذا الإقليم العزيز، وها هو اليومَ التاريخ يعيد نفسه، وإنه سعيد بوجودنا مع جلالته. وإذا كان تحرير موريتانيا من الاستعمار واجبنا جميعا وسنبذل ما في وسعنا لتحقيقه، فإننا قد نكون مدعوين لتحمل المسؤوليات في المغرب المستقل كسائر الأطر المغربية”.
وواصل: “في لقائنا مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كان أكثر صراحة في حديثه معنا، مؤكدا أنه لا جدال في مبادئ التحرر من الاستعمار وأن موجته قد بدأت تنحسر، وأن المغرب لن يألو جهدا في عوننا، وركز في عرض شامل على التأكيد أن المغرب لم يستكمل استقلاله بعد، وأنه يواجه قضايا داخلية لم يتم الحسم فيها، وأن أحداث الجزائر من أهم الانشغالات اليومية للمسؤولين على الصعيدين الأمني والدبلوماسي”.
وتحدث ولد ابّاه عن الجولات في المغرب قائلا: “كانت اكتشافا غريبا بالنسبة لنا، وكأن كلا منا عاد إلى أصوله الأولى. لقي الأمير محمد فال بن عمير رفاق أبيه وعمّه، وشعراء أهل بيته من أهل مانو وعميد أسرتهم آنذاك الخو ولد مانو، وحلفاءهم من الزركَيين، ووجد الشيخ أحمدُّ نصيبه من تركة والده الذي كان ذا أملاك في عين أولاد جرار قرب تيزنيت، ووجد السيد الدَّي أصوله العائلية في مدينة اكَلميم ورفاقه الأقدمين في السياسة. أما أنا، فقد وقفت على تلك الآثار التي اتصلت بالحياة الروحية لوالدي أثناء إقامته بالعلو مع السيد العربي بن السائح”.
ومن بين ما ذكره الكاتب انتسابه إلى كلية الآداب بالرباط، لاستكمال دراساته الجامعية، والاختلافات في الآراء حول الوسائل الممكنة لتحرير موريتانيا من الاستعمار، وحول “أهمية الوحدة مع المغرب”.
كما تحدث الكتاب عن إدارة العلَم الراحل الإذاعة والتلفزة المغربية، وتدريسه بدار الحديث الحسنية، ومحطات متعددة مثل تأسيس منظمة “الإيسيسكو” بفاس، وعلاقته بنادي الطيران في العاصمة والنوادي الثقافية الرباطية.
صداقات مغربية
من بين ما يرد ذكره في هذا الكتاب أسماء عدد من الأعلام الذين عرفهم محمد المختار ولد ابّاه، خاصة الموريتانيين والمغاربة والأفارقة عامة والعرب.
وفضلا عن الشخصيات السياسية والدبلوماسية، يذكر ولد ابّاه “زملاء نمت بيني وبينهم علاقات ود وصداقة وطيدة”؛ من بينهم: الأكاديمي محمد بنشريفة، والسياسي والباحث محمد حدو الشيكَر، والمؤرخ محمد حجي، وقيدوم الدراسات الإسلامية محمد بلبشير.
ويذكر ولد ابّاه في محطة أخرى بنشريفة، عميد الأدب الأندلسي، قائلا: “الأخ العزيز محمد بنشريفة كنت زميلا له في الدراسة والتدريس، وكان قمة في الآداب الأندلسية”.
ومن بين من دعاهم ولد اباه، في الفترة التي كان فيها مديرا لمدرسة التعليم العليا بموريتانيا “عبد القادر المهيري عميد كلية الآداب بتونس المتخصص في النحو (…) الشاذلي بويحيى وعبد الهادي الطرابلسي ومحمد اليعلاوي ومحمد الطالبي، وهم من خيرة الأساتذة الجامعيين التونسيين، ومحمد بنشريفة وعباس الجراري وعبد العزيز بن عبد الله وكلهم من الرموز العلمية والمعرفية في المغرب، وعبد الجليل الحجمري أمين سر الأكاديمية المغربية، وكان مدير المدرسة العليا للتعليم بالمغرب وهو أستاذ لامع وحصد عدة جوائز دولية، وسمير أمين، الاقتصادي الماركسي المشهور وتمام حسان وهما من مصر”.
كما تحدث في محطات عن “الدكتور والصديق عبد الهادي التازي، صاحب النوادر في كل مستظرف، فكثيرا ما أمتع المؤتمرين بمفاجآته في بحوث متنوعة، سواء تتعلق بالأعلام الجغرافية، أو صيد الصقور، أو مخطوطات الطب النبوي، أو رحلات ابن بطوطة وتاريخ مدرسة القرويين”.
وتذكّر الكاتب استقباله المتكرر للشيخ واللغوي تقي الدين الهلالي، وذكر أنه “شخصية علمية معروفة، وكان في تلك الفترة يدرّس اللغة العبرية في كلية الآداب بالرباط، وكانت ضمن المواد المقررة علينا، ونظرا لمشاغلي كان يأتي إلي لإعطائي دروسا من العبرية في المنزل. ولم نكن نتعرض في هذه اللقاءات إلا للقضايا التعليمية والعلمية، وإن كان يحدثنا عن علاقاته بالشناقطة الذين تتلمذ عليهم في المغرب والعراق”.
وفصل العلَم الراحل في علاقته، عبر السنوات، بالنوادي الثقافية في المغرب وخاصة “النادي الجراري”، الذي أسسه العالم عبد الله الجراري واستمر مع عميد الأدب المغربي عباس الجراري، و”نادي مولاي علي الصقلي”، وسهرات في بيت “العالم الفذ والفقيه الجهبذ بنبين رحمه الله”، و”المجلس الشرقاوي” الذي كان “فرصة لتعزيز علاقات مع أصدقاء قدامى والتعرف على أصدقاء جدد، ومن بينهم: عبد الهادي التازي، وعبد الصادق لكَلاوي، والمهدي المنجرة، وعبد الله بلقزيز وأحمد لقريصة، وسعيد الحسن، ومجاهد الأميري”.
وأسهب ولد ابّاه في الحديث عن الفيلسوف محمد عزيز لحبابي، قائلا: “عرفته أول مرة في كلية الآداب في الرباط سنة 1960، كان يدرسنا الفلسفة في السنة الأولى من الليسانس (…) تطورت علاقتي معه بعد ذلك وتحولت إلى صداقة عميقة امتدت إلى باقي أفراد أسرته، وخصوصا السيدة الفاضلة رفيقة دربه وجامعة علومه الدكتورة فاطمة الجامعي لحبابي، وابنه الدبلوماسي اللبيب عادل”.
وأردف قائلا: “لا أزال أذكر سفرا علميا قمنا به معا إلى ألمانيا الغربية في الستينيات من القرن الماضي، عندما كنت مديرا لهيئة الإذاعة والتلفزة المغربية، نظمته وزارة الخارجية الألمانية، شهدت فيه من عمق ثقافته واتساع معارفه الشيء الكثير”.
ثم استرسل مفصلا: “لقد اشتهر محمد عزيز لحبابي في العالم العربي بمذهبه في الشخصانية الذي طوره عن الفيلسوف الفرنسي أميل مونيي، وحاول أن يؤصله ويلبسه لبوسا إسلاميا. إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون أن لحبابي اشتهر في العالم الفرنكفوني بكونه شاعرا، وشاعرا كبيرا، أكثر من كونه فيلسوفا. ولا أدل على ذلك من مزاحمته الرئيس السينغالي سنغور في جوائز الشعر”.
وأضاف: “زرته مرة في منزله العتيق في ضواحي الرباط، وكان قد اشتد عليه المرض فسألني عن كتبي ومواضيعها، فقلت له إني أعكف على تأليف كتاب عن المذاهب والفرق الإسلامية، فقال لي بصوت خفيض لا يكاد يسمع: أرجوك لا تنس المعتزلة. كان ذلك آخر لقاء به، وما زلت أحتفظ بعدة وثائق خاصة وفاء للعلاقة العميقة بيننا، ولا شك في أن هذا الرجل يستحق على أصدقائه وتلامذته ورواد الفكر الإسلامي وأساتذة الدرس الفلسفي من الاهتمام والتقدير أكثر مما نشاهد اليوم”.
The post العلّامة الموريتاني ولد ابّاه يسرد مقتطفات من علاقاته مع شخصيات مغربية appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/HBt0T2Z
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire