في ورقة له عن رواية الخبز الحافي لمحمد شكري، قدمها ضمن أعمال كرسي الآداب والفنون الإفريقية لأكاديمية المملكة المغربية بعنوان: قلْ كَلِمَتَكَ قبلَ أنْ تَمُوتَ فِيكَ… تساءل عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط: هل كتب محمد شكري سيرته الذاتية أم كتب سيرة روائية شَطّارية؟ والسيرة في كل الأحوال هي نثر استرجاعي يكتبه شخص واقعي عن وجوده الفعلي، وعن حياته الفردية وتاريخ شخصيته، ليخلص إلى أن الخبر الحافي نص لا يستعيد حياة عادية، بل يعيد بناء هوية فردية من قلب هوية اجتماعية وثقافية ممتدة في ذاكرة ووجدان كاتبها.
وذكر المحاضر أن الخبز الحافي نص أدبي انتهج مسارا استثنائيا في التأليف والنشر، فقد صدر مترجما إلى الإنجليزية أول مرة سنة 1973 من قبل بول بولز؛ تلتها بعد سنوات، وتحديدا سنة 1980، الترجمة الفرنسية من قبل الطاهر بن جلون؛ ولم ينشر النص الأصلي باللغة العربية إلا سنة 1982 على النفقة الخاصة لمؤلفه، بعد أن رفضته دور النشر العربية؛ ومُنع سنة 1983 ولم ينشر مرة أخرى إلا سنة 2000.
لا أعرف في تاريخ الآداب المعاصرة، يضيف الحجمري، نصا أدبيا قطع كل هذه المراحل والمسارات، ليغدو خالدا وأحد العلامات المميزة في الكتابة الأدبية المغربية والعربية؛ فنحن أمام سيرة روائية بالقدر الذي تحضر فيه العائلة بقوة، بالقدر الذي تكون فيه هذه السيرة بدون عائلة.
وأكد المحاضر ذاته أنه من اللازم قراءة الخبز الحافي في علاقته بنصين آخرين يشكلان ثلاثية سيرية، هما: زمن الأخطاء ووجوه، ويمكن أن نضيف إليهما رواية الشطار أيضا، التي تنتمي بشكل صريح إلى الأسلوب الشطاري، ذلك أن أحداث هذا الصنف من الآداب تدور– عموما – حول العادات والتقاليد الخاصة بالطبقات المعدومة والدنيا في المجتمع، ما يعني أن قصص مغامرات الشطار هي قصص محن اجتماعية ومغامرات إنسانية.
وذكّر الحجمري بأن محمد شكري استهل سيرته بذكر أول أفراد عائلته؛ خاله: “…أبكي ذكرى خالي..”، ثم ذكر أمه وأخاه عبد القادر وأباه في فقرة واحدة، حيث تظهر كل العائلة مرة واحدة: “… أمي تقول لي بين لحظة وأخرى.. أسكت سنهاجر إلى طنجة… أخي عبد القادر.. لا يبكي تقول أمي… دخل أبى، وجدني أبكي على الخبز أخذ يركلني ويلكمني…”؛ تليها في بقية السيرة بقية الشلة: الأخ “عاشور” والصديق “التفرستي”… يبدو الأب “سي حدو علال ” شخصية قاسية جدًا، عنّف محمد شكري في طفولته، وضرب ابنه الآخر ضربًا شديدا حتى فارق الحياة؛ بينما الأم “سيدا ميمونة” شخصية ضعيفة ليس لها رأي، تساير زوجها ولا تقوى على رفض طلباته. وعن علاقة الأب بابنه يقول (محمد شكري) ذات مرة: (تعثرتُ، سقطتُ هوى عليّ بالعصا، عَوَيْتُ، شتمتُه في خيالي، يضربني ويلعنني جهراً، أضربه وألعنه بخيالي، لولا الخيال لانفجرتُ)- (الخبز الحافي ص53).
ويستنتج الحجمري أن ثمة سمة مركبة الدلالة تميز صورة العائلة في الخبز الحافي، يمكن تبينها بسهولة من الفقرات الأولى من هذه السيرة:
صورة العنف والتمرد: “قلبي يخفق بعنف”، يقول السارد.
صورة العبث واليأس: “هل تعمد الله أن يخلق هذا العالم على هذا الشكل من الفوضى والتنوع؟”، يقول أيضا.
صورة العناد والتحدي: منذ كان السارد طفلا حين نشأ في وضع اجتماعي لا يعرف إلا المجاعة والفقر والقمع وتسلط الأب، ثم شابا يسعى للخروج من العوالم السفلى لطنجة، ليلتحق بالمدرسة، ويعود إليها بعد سنوات ناطقا رسميا باسمها، ينقل تفاصيلها إلى عالم الإبداع.
هل يمكن الزعم أنه لا وجود للعائلة في الخبز الحافي؟ يتساءل المحاضر؛ ثم يعلّق: العائلة هنا علاقة إنسانية مفجعة ومشاعر نابعة من كراهية مدمرة، كان من آثارها التشرد والضياع، إلى درجة لم يكن يعرف السارد فيها عدد أفراد أسرته، يقول في الشطار: “حتى الآن لا أعرف كم كنّا. لقد كان يولد لي أخ وأخت فيموت أو تموت، وأنا في طنجة لا أعلم شيئاً”. لم أسألها (يقصد أمّه طبعا) قطُّ حتَّى وفاتها في 8/6/84″ (ص100).
كما ذكر الحجمري أنه سنة 1980 استضاف برنار بيفو، في برنامجه الشهير Apostrophes، محمد شكري ليتحدث عن الخبز الحافي.. سأله بيفو عن قسوة والده الرهيبة، فأجاب شكري: “ما كتبته في الخبز الحافي عن والدي هو حديث عن مشاعري في تلك الفترة، وليس ما أقوله الآن، أنا الآن أعرف وأفهم أن والدي نفسه كان ضحية للبؤس والفقر…”.
لم يكن شكري إذن يتحدث في الخبز الحافي عن والده؛ كان يتحدث عن مشاعره..قسوة والده من قسوة المرحلة ومن قسوة المجتمع آنئذ.
بين أن نكون مع محمد شكري أو ضده في ما كتبه، يتابع المتحدث ذاته، فإننا لا نختلف حول أهمية ذخيرته الأدبية في علاقتها بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي طبع مغرب سنوات الخمسينيات من القرن الماضي.
تساءل الحجمري في محاضرته أيضا: هل يمكن القول إن الخبز الحافي رواية عائلية بالمعنى الذي استعمله به فرويد Freud في كتابه Le Roman familial desnévrosés وعمَّقته مارت روبيرMartheRobert في كتابها Roman des origines et origines du roman؟.
يجيب المحاضر: الخبز الحافي رواية عائلية بدون عائلة. والعائلة في النص ما هي إلا مرآة كان السارد يرى فيها حياته رمزا مشوها لا تنبعث منه إلا أحاسيس القلق والعدمية، ولا ينشد إلا التمرّد من أجل تجاوز تبعات حقبة متوترة من زمننا المغربي. لم تكن العلاقة بين أفراد العائلة والعالم المحيط بها قائمة على الانسيابية والرومانسية، بل كانت علاقة لا تعرف إلا هيمنة مشاعر الفقد الإحباط وعدم اليقين، بخواء وجداني يسرّب إليها الإحساس بأن كلّ شيء أصبح له طعم المرارة.
لذلك شكلت الكتابة في الخبز الحافي وظيفة ترميم المنهار من القيم والقابل للتلف منها، لأن شكري أدرك معنى الحاجة إلى الحب؛ والتعطش إلى معرفة صافية ومباشرة، ومعنى مشاركته ألمه مع الآخرين. ولذلك كان التمرّد الذي يغمره مُوَجها ضدّ الكُلّ: ضدّ الأب، وضد الظلم الاجتماعي… فقد كتب شكري الخبز الحافي بدون أسرار، كان قلبه مفتوحا، شغوفا بالحياة ولا يسكنه ندم.
The post "قلْ كَلِمَتَكَ قبلَ أنْ تَمُوتَ فِيكَ" .. الحجمري يعيد قراءة "الخبز الحافي" appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/PY3v6bd
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire