إبراهيم العسري .. ستون سنة من الوفاء لـ"عالم الموسيقى" في المغرب

زقاق الأسكندرية بالعاصمة المغربية الرباط مازال يحتضن أقدم وآخر محل لبيع الأسطوانات والأشرطة الصوتية بالمغرب؛ صاحبه إبراهيم العسري يفتح أبوابه كل صباح لاستقبال زبائنه الذين يتوافدون بين الفينة والأخرى بحثا عن أشرطة موسيقية تسافر بهم إلى حقب زمنية مضت، حاملة معها كل التفاصيل التي لا يجب نسيانها.

“المحل يتجسد كمتحف للذاكرة الموسيقية، ومع الأسف سينقرض يوما ما”، هكذا وصف المكان زائر صادفناه هناك.

صوت أغنية طربية قديمة آت من مكان ما، يُسمع صداه في هذا الزقاق المتنكر وسط مدينة مازالت تحافظ على ما تبقى من معمارها القديم. وقع هذه الموسيقى على مسامعك لا يمكن وصفه بالكلمات، إنه أشبه بالسفر من زمن إلى آخر، في زخم الشارع وضجيجه يأتي هذا الصوت ليغير وجهتك، إلى وجهة تعبر بك إلى الماضي.

في هذا المحل، قضى إبراهيم العسري، وهو في السبعينات من عمره، وأب لابنين، أزيد من 56 سنة يعرض الأشرطة والأسطوانات الموسيقية للبيع، وإصلاح أجهزة الراديو؛ وقرر الاستمرار في هوايته بعدما تنكر لها الجميع، وأصبح الشخص الوحيد المدرك حقا لما تختزنه رفوف المحل الذي اختار له اسم “عالم الموسيقى”، من نوستالجيا موسيقية.

إبراهيم العسري يشغل الموسيقى

عاش العسري طفولة بسيطة بين دروب المدينة القديمة للرباط، انقطع عن الدراسة في سن مبكرة، ليتوجه بعد ذلك للعمل في بيع العطور لفترة وصفها بـ”القصيرة جدا”، قبل أن يستقر به المقام في بدايات الستينيات من القرن الماضي في محل لبيع الأشرطة الموسيقية، وهو المحل الذي مازال يعيش فيه تفاصيل ذكرياته من الزمن الجميل والفترات الذهبية للموسيقى العربية والغربية.

يقول العسري في مقابلته معنا إنه في العام 1964 قرر أن يجسد حبه للموسيقى من خلال العمل في بيع الأشرطة الموسيقية، وقرر بدء مشروعه بأشرطة معدودة، زين بها “كونتوار” المحل المتواجد بقلب العاصمة على مقربة من شارع محمد الخامس.

رفوف المحل تحتفظ بأشرطة وأسطوانات يعود تاريخ إصدارها إلى فترات زمنية مختلفة من الستينيات إلى الألفية الجديدة، قبيل زحف العالم الرقمي، إذ تتشكل في مكانها كلوحة فنية تحتفظ بتاريخ فني يقاوم الاندثار. ويرى العسري أن المحل تجاوز غايته المتمثلة في بيع الأشرطة الموسيقية إلى رغبة حقيقية في الحفاظ على ميراث موسيقي يتهدده النسيان.

أشرطة وأسطوانات موسيقية من المحل

العسري لا يخفي حبه الكبير للموسيقى المشرقية القادمة من مصر، التي كانت أشرطة فنانيها تغزو الأسواق الموسيقية العربية، ويقول في هذا الصدد: “كنت من أشد المعجبين بموسيقى محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعبد الحليم، ثم أم كلثوم، ومازلت كذلك”.

ومن طرائف ولعه بالموسيقى، حكى العسري أنه خلال أيام طفولته، حينما كان يمر قرب المقاهي ويستمع للموسيقى على أثير الإذاعات، كان يقف في مكانه بالشارع حتى تنتهي الأغنية، قبل أن يكمل المسير، ويقول عن ذلك: “كنت مولعا بالموسيقى.. كانت ومازالت كل حياتي”.

ملصق لرائد الأغنية المغربية إسماعيل أحمد 1933-1997

ملصق للفنان إسماعيل أحمد، أحد رواد الأغنية المغربية، من الملصقات التي تزين جدران الخزانة الموسيقية الخاصة بالعسري، الذي يؤكد أنه خلال بداياته كان يعرض أشرطة أغلبها قادمة من المشرق، لفنانين مثل محمد عبد الوهاب وأسمهان وعبد الحليم…

وجوابا عن سؤال “ما الذي تغير خلال هذه السنوات منذ بداياته في عالم الموسيقى وإلى اليوم؟”، يقول: “كل شيء تغير، الأذواق تغيرت كثيرا، لم تعد هناك أذن موسيقية”، ويفسر ذلك بأن الحياة تغيرت كثيرا بالمقارنة مع الماضي.
ويقول المتحدث ذاته: “اليوم أصبح الناس مفتونين بهموم الحياة، وخائفين على قوت يومهم، بينما في الماضي لم يكن هناك ما يشغلهم.. كانوا مطمئنين”.

ومازال صاحب المحل يحتفظ بأشرطة للفنانة المصرية ليلى مراد، وكان اسمها “ليليان”، وأشرطة للفنانة السورية أسمهان، واسمها الحقيقي “آمال الأطرش”، وهي شقيقة فريد الأطرش. ويؤكد العسري أن هذه الأشرطة لم تغادر الرفوف منذ فتح المحل سنة 1964.

العسري يشغل تسجيل “إنت عمري” لأم كلثوم

“حينما يأتي زبون مولع بالموسيقى ويجد عندي ما يبحث عنه، تلك الفرحة التي تتجسد على ملامحه أشعر بأضعافها في داخلي؛ إنها سعادة وفرحة لا تضاهيها فرحة”، هكذا يجيب العسري عن سؤال: “ماذا قدمت لك هذه المهنة؟”، قبل أن يضيف أن ذاك الإحساس الذي ينتابه في تلك اللحظة إحساس غريب وجميل يعيده لبداياته، ويشعره بالحماسة للاستمرار في فتح المحل كل صباح.

وفي عودة بشريط الذكريات، يقول إبراهيم إن سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هي أوج الازدهار والإقبال على الموسيقى المسجلة، سواء الأغاني المغربية القديمة أو الأغاني الشعبية والمشرقية؛ ويصفها بأنها كانت فترة الراحة النفسية والحياة المستقرة لغالبية الناس الذين كانوا يحبون ويستمتعون بالاستماع للموسيقى، وزاد: “كان ذلك الزمن جميلا”.

ملصقان للفنانين المغربيين المعطي بلقاسم 1928-2001 ومحمد رويشة 1950-2012

ويضيف المتحدث بأسف أنه “مع حلول القرن 21 بدأ التحول وبريق الزمن الجميل في التراجع؛ فقط الأشخاص المتقدمون في السن هم من استمروا في ارتياد المحل، للحصول على إحدى التسجيلات، أما الجيل الجديد فأغلب أبنائه لا يعرفون الفن القديم ورجالاته، ولم يعيشوا تجربة الانتظار لأسبوع كامل حتى يحل يوم السبت للاستماع لإحدى السهرات أو لرؤية مطرب معين”، مردفا: “حتى التلفزيون اليوم غابت عنه هذه السهرات المسجلة الطويلة. هم جيل الأغنية الشبابية السريعة التي يسمعونها اليوم وغدا تموت بنفس سرعة ظهورها ومدتها. في حين أنا وأمثالي مازلنا إلى اليوم نشتري الأشرطة المسجلة أينما وجدناها، بالشغف نفسه، ورغم أنها متوفرة على المنصات الجديدة”.

ويُحمل العسري، جزءًا من المسؤولية عن هذا التقصير تجاه الموسيقى القديمة للإعلام والتلفزيون، مؤكدا أنه “لا توجد اليوم إذاعات خاصة تعرض الموسيقى الكلاسيكية القديمة التي طالها النسيان”.

وبأسف شديد يتحدث إبراهيم أيضا عن تزايد إحساسه باقتراب نهاية هذا العالم، وعبر عن ذلك بقوله: “كل الأشرطة التي أبيعها الآن لا أجد لها أثرا بعد ذلك..أصبحت أودعها بحسرة”، ويرى أن التطور التكنولوجي والهاجس الربحي قتلا الفن، قائلا: “التكنولوجيا صعيبة، وهي لي غاتفني الوقت”، بمعنى أن التكنولوجيا تسير بنا نحو الفناء.

أمام هذا الواقع والتراجع الذي عرفه الإقبال، جاء سؤالنا عما جعله يستمر في هذه المهنة، فرد العسري بيقين تام بأنه لا يملك بديلا، لأن هذه المهنة هي ما يتقنه وما يحبه، ولوفائه لزبائنه الذين يتملكهم الولع نفسه، ويبحثون عن الأغاني النادرة، سواء كانت أمازيغية أو غيرها، قبل أن يضيف: “ما جعلني أتشبث أكثر بهذه الحرفة هو أن الجميع أدار ظهره لها، وأنا بقيت هنا وحدي؛ كنت أقدمهم واليوم آخرهم في هذا المكان وفيا لما أحب، وبمجرد رحيلي من هنا سينمحي المحل وسيأتي آخرون ليقوموا بنشاط آخر، خاصة في غياب مساعدة وزارة الثقافة للحفاظ على هذا الموروث”.

إبراهيم العسري

حتى أبناؤه يخبرونه بأن هذا المجال طاله النسيان وأدركه الموت، ويجيبهم إبراهيم، ومعهم كل من ينصحونه بالتخلي عما يفعله، بقوله: “أنا كبرت وسط هذا العالم من الأسطوانات والأشرطة والتسجيلات، أنتمي إليه، وهنا سأبقى إلى أن نذهب معا، أنا إلى قبري وهو إلى قبر النسيان. هذا المكان ليس مصدر ربح، بل ذكرى أعيش معها حتى النهاية”.

ويرى العسري أن التكنولوجيا جردت الحياة من معناها، ويستشهد بأيام الماضي حينما كان الناس يشترون آلة التصوير ويلتقطون صورا لذكرياتهم؛ ويتساءل في هذا السياق: “هل يكمن أن نقارن بين صور الماضي المتلقطة بآلة التصوير مع الصور الملتقطة بالهاتف اليوم؟”، قبل أن يجيب مناجياً نفسه: “إنها صور لا تقارن، فلا يمكننا مقارنة تاريخ بصورة قد تُمحى في أي لحظة”.

The post إبراهيم العسري .. ستون سنة من الوفاء لـ"عالم الموسيقى" في المغرب appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/nSV9aI8

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire