ناقد مغربي يرصد معاكسة صناعة المحتوى لتحديث العقليات عبر انتشار التفاهات

قال الكاتب والناقد المغربي إدريس القري إن “صناعة المحتويات على يوتيوب وعلى غيره من تطبيقات التواصل الاجتماعي أصبحت تتصدر قائمة أعلى المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي، ورشحها هذا النجاح الكمّي لامتلاك سلطة مُؤثِّرة على مستوى التواصل الجماهيري وصناعة الرأي العام”.

وتطرق القري، في مقال له بعنوان “صناعة المحتوى.. آلية تعاكس تحديث العقليات وتثقل مسيرته”، إلى جوانب متعددة من موضوع صناعة المحتوى، من خلال محاور “صناعة وأدوار مثيرة للجدل”، و”ظاهرة عالمية وآثار متباينة”، و”ذريعة كاذبة وحماية غائبة”، و”ما وراء سلطة التفاهة؟”، و”أين المثقفون والمتخصصون والمناضلون والفنانون؟”.

وختم إدريس القري مقاله بالإشارة إلى أن “اعتماد السلطات الوزارية والحكومية عموما على هذا النوع من الخطابات، وتكريم وتشريف ودعم أصحابها، وتمكينهم من أداء مهام التوعية بإجراءات وتبليغها لعامة الشعب بالإشهاريات الرديئة، وبالوصلات البليدة غير الجميلة ولا الذكية، تحت ذريعة ركوب أهداف ملامسة الأغلبية، وبتوظيف وجوه رموز التفاهة بدعوى الوصول والتواصل مع الشباب وعامة الشعب بلغة اليوم وبلغتهم، بالنسبة لي خطأ جسيم”.

صناعة وأدوار مثيرة للجدل

أصبحت صناعة المحتويات – على يوتيوب وعلى غيره من تطبيقات التواصل الاجتماعي-تتصدر قائمة أعلى المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي.

رشحها هذا النجاح الكمّي لامتلاك سلطة مُؤثِّرة على مستوى التواصل الجماهيري وصناعة الرأي العام. تحمل هذه السلطة الجديد وغير النخبوية-مع خضوعها لتطويع النخب من خلال تقنيات التوجيه والتزييف والتبريز والطمس إلخ –(تحملُ) بُعدًا تربويا و”تنشئويا” وإعلاميا، ذا انعكاسات هامة على القيم وأنماط السلوك الشائعة. تأثيرات ووقع صناعات المحتوى هذه على المجتمع عموما، وعلى بنياته الذهنية والثقافية والسلوكية، أصبحت مثار جدل من حيث سلبياتها وإيجابياتها على الأجيال الناشئة الطفولية والمراهقة فيما يتعلق بما يتكون في ذهنها من قيم وقدوات ومبادئ تمس مستقبلهم ومستقبل البلد باعتبارهم نساء ورجال المستقبل.

ظاهرة عالمية وآثار متباينة

قد يقول قائل بأن الظاهرة عالمية، لكن يبدو أن السياق مختلف جدا بين البلدان، والآثار المترتبة عن ذلك تختلف جذريا كذلك. إن صُنَّاع المُحتوى في البلدان المتقدمة والمخترعة والمسيطرة على هذه الأشكال التواصلية الجديدة وعلى تكنولوجياتها وبنياتها وهندستها وشركاتها الكبرى، لا يجدون التقدير نفسه ولا التبريز نفسه، ولا هم يُشكِّلون نموذجا وقدوات في مجتمعات حداثية وعصرية. استقبال صناع المحتوى بهذه البلدان في برامج النقاش والثقافة والإبداع والشباب، يُقزِّمُهم-وشتان بين المحتويات لديهم ولدينا-لأنهم يخشون قدرة هذه البرامج، والإعلام السمعي البصري عموما، على تعرية جوفهم الفارغ، ناهيك عن أنهم لا يحظون بالشاشات إلا نادرا. يعود وضع صناع المحتوى هذا في الدول الحداثية المتقدمة ثقافيا وإعلاميا وتعليميا، إلى رصانة الإعلام ومهنيته المتمثلة في ارتباطه باستراتيجيات حداثة وقيمها واضحة المعالم ومحمية، وإلى صحافيين مُقدمين لتلك البرامج عاليي التخصص ومهنيين في إعداد حلقاتهم. ويعود هذا المستوى المختلف عنا أيضا إلى وعي المجتمع القارئ للكتاب، والمرتاد يوميا للمسرح والسينما ودور الثقافة، والمتآلف مع مناخ مدارس وجامعات مترسخة فيها تقاليد المعرفة والعقلانية والعلم والبحث العلمي وتقاليد الفكر الرفيع.

يحمي ما سبق الوعي المدني للمواطن وللعقل الجمعي، ويجعل من المستحيل على صناعةٍ ضعيفة وغير حاملة لأي مشروع ثقافي أو حضاري أو تربوي جمالي، أن تخترق الطبقات الوسطى وفئات النخب على الأقل بشكل ملحوظ، عكس ذلك ما يحدث في مجتمعاتنا، ويا للأسف.

ذريعة كاذبة وحماية غائبة

دعونا نبدأ بإعلان أن الربط بين تشجيع صناع المحتوى ومنح الشباب الكلمة والحق فيها، إنما هو ذريعة ضعيفة جدا ما أنزل الله بها من سلطان. ليست صناعة المحتوى وما تثيره من جدل-غالبا ما يصفها الشباب الرصين نفسه بصناعة التفاهة-دليلا ولا نعتا يُعمَّم على شبابٍ من الأكيد أنه فوق مستوى عامّ يسيطر عليه “أغنياء تسيُّبٍ” صادفوا فراغا فظيعا في الوعي المدني والثقافي والجمالي، وهاهم يستغلونه ليربحوا ويدمروا في غياب حماية للشبيبة الغضة، لا من الأسرة ولا من المدرسة ولا من مؤسسات الدولة الوصية.

لا تتدخل الدولة إلا عند المساس بالمقدسات والثوابت، ونتائج تدخلها فعالة في الغالب الأعم. أما التعدي اليومي على قيم الحداثة والمواطنة، وعلى الوعي المدني وقيم التعدد والحقوق الفردية، وعلى المبادئ الراسخة والنبيلة للواجب والمسؤولية، ومن أجل نقاء القدوات والنماذج التي يتم تقديمها للناشئة، فلا يثير لديها أي رد فعل!

تقتضي حماية الحريات حماية القيم بحماية النخب المنتجة لها، والحد من تطاول كل من يهدمها.

ما وراء “سلطة التفاهة”؟

‏ظاهرة انتشار ورواج التفاهة، ليست فقط مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، بل وفي الواقع أيضا، وهو الأهم، ‏ترجع إلى عوامل متعددة ومتنوعة ومعقدة تستلزم دراسات ميدانية ونظرية متعددة الاختصاصات. لكن ذلك لا يمنعنا من إبداء بعض الملاحظات والتأملات:

1. طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي؛ فهي عبارة عن مواقع في العالم الافتراضي لا تتطلب إذنا لنشر محتوى، ‏كما أنها لا تتطلب شهادة تخصص في التواصل والتكوين للخوض في كل المواضيع، ولا التزاما أخلاقيا أو الالتزام بميثاق ما. علاوة على ذلك، فهذه المواقع لا تتطلب ولا تشترط ضوابط فكرية وثقافية للولوج إليها ولنشر آراء ومواقف، بل حتى الضوابط الأخلاقية المعتادة يتم تجاوزها فيها، لأنها مواقع يحكم منطقة الولوج إليها واستغلالها منطق واحد هو الأقوى على الإطلاق، إنه منطق الربح أساسا وأولا وأخيرا، والاستثناء الوحيد الممكن هو تهديد المصالح الاستراتيجية للدول كما هو واضح في الحرب في أوكرانيا حول الهيمنة والسيادة العالمية.

2. ‏منطق الربح هذا صنع من العالم الافتراضي ومن مواقع التواصل الاجتماعي التي تهيمن عليه بمنطقها الجديد كما سنرى، مساحات من الممكن الولوج إليها واستغلالها من طرف كل من يستطيع مخاطبة أكبر عدد من الجماهير، وطبعا فكلما نزَلتَ بخطابك نحو العامَّة والجماهير العادية النمطية، المُحنطة عقولها على الاعتيادي والشائع والمألوف والموروث، بل والمتكلس، إلا واتصلت بالأغلبية. الاتصال بالأغلبية يتطلب التبسيطية التي تحرمُ الأفكار والطروحات والآراء من غناها ومن تركيبيتها ومن العمق، بل والمعقولية التي ينبغي أن تحملها. نسقط مع كل ما سبق في السطحية والابتذال والديماغوجية بالتالي، وهو ما يفتح الباب أمام دغدغة المشاعر والضرب على وتر الانفعالات والمكبوتات.

3. يقودنا ما سبق أيضا إلى القول بأن ثَمَن تغطية السّواد الأعظم من الشعب بخطاب مفهوم وفي متناول العامة ببساطته، وبالتالي تشويهه للحقائق باختزالها، يجلب أرباحا طائلة لشبكات التواصل الاجتماعي ومن يقف وراءها، وهي الشركات العابرة للقارات. يتم دخول العالم الافتراضي بمقابل أيضا، ويقتضي فتح باب الدخول بالضرورة الكشف عن بيانات شخصية ثمينة لحصول الشركات على الإشهار المُدرّ لأموال ضخمة، لأن شركات العالم الافتراضي تدرس أذواق وميول واختيارات الناس، انطلاقا من مراقبة ما يتفرجون عليه وما يحبونه وما يكرهونه وما يعلقون عليه، وبالتالي تبيع كل ذلك لشركات ولدول لأغراض متعددة تمكنها في النهاية من تطويع توجهات الرأي والذوق والموقف إلخ.

4. لتشجيع التفاهة والفراغ وتشويه الوعي، تدفع هذه الشركات لمن يحقق أتباعا كثيرين، ولا يحقق هذا الهدف طبعا إلا الأقرب إلى التفاهة وبساطة الوعي، وهم صناع المحتوى الذين لا ثقافة ولا وعيا جماليا أو مدنيا لهم، بل ولا ضمير لهم؛ لأن وعيهم مقلوب وشقي أصلا، رغم أنهم يعتقدون العكس حيث يزيد حصولهم على مال وفير وشهرة شعبوية من تضخم الأنا لديهم، ومن اعتقادهم بأنهم فعلا مشاهير، بل ورموز.

5. إن سعي شركات ومؤسسات عمومية وخصوصية وراء حضورهم وبمقابل سخي، وتكريمهم أحيانا وكأنهم حققوا إنجازا وطنيا للأمة، يزيد من الخسائر الفادحة على مستوى بنيات الذوق والتربية وسلامة الوعي الوطني، بانتشار نموذجهم بمضامينه بين الأطفال والمراهقين، بل والكبار، المنزوعة وسائل دفاعهم عن وعيهم، التي يبخل، إن لم يعجز، التدريس والإعلام والأسرة في تزويدهم بها.

6. يطرح كل ما سبق قضايا قانونية وأخلاقية، رغم ظهور جمعيات ومنظمات وتشريعات وطنية وعالمية لحماية المعطيات الشخصية، لكن الاختراق قائم وسيظل كنوع جديد من “البيغ براذر”، ويتطور مع التكنولوجيات واستعمالاتها مع الزمن.

7. تتصدر المحتويات التبسيطية والرديئة والتافهة إذن قائمة المشاهدة، لأن الأغلبية الساحقة من المرتادين-تزداد نسبتهم بازدياد تخلف البلد في ميادين التعليم والتربية والثقافة والفنون، وبالتالي الوعي المدني والثقافي-ذات مستوى وعي فكري وثقافي وفني ومدني ضعيف. لذلك، فهي لا تقبل إلا على التفاهة، وهو نوع من الاحتماء والدفاع عن النفس من رقي لا ولوج لها إليه.

إقبال واستهلاك الآلاف أيضا من الطبقات الوسطى للمحتويات الرديئة، وبالتالي دعمها وتشجيعها على النجاح، يعود في نظري إلى ضعف هذه الطبقة نفسها بضعف التربية والتعليم، وضعف الإعلام الذي من المفروض أن يكون توعويا وعقلانيا وعالي المهنية، يتضمن الكثير من برامج الثقافة والحوار والوثائقيات والفن الرفيع أيضا وليس الهابط فقط والشعبي، متلائما مع الانتظارات المستقبلية للمغاربة، ومنسجما مع بناء مشروع المجتمع الحداثي الديمقراطي الذي أعلن عنه صاحب الجلالة منذ انطلاق عهده.

أين المثقفون والمتخصصون والمناضلون والفنانون؟

قد أفاجئ بعضكم إن قلت لكم بأن أغلب هؤلاء لا صلة لهم، وهم لا يعرفون التعاطي مع العالم الافتراضي وتقنياته، فهم محافظون لا يقبلون على تجديد تعلُّماتهم بالمعلوميات وتقنيات عالم التواصل الجماهيري، بل يتخفون فيه وراء هويات مزورة وبشكل خاطئ معتقدين أنهم أكبر من تلك التفاهات، بينما هم ببساطة يساهمون بالتهرب والهروب في انتشار الرداءة. الأدهى أحيانا أن حتى بعض من يكتبون تحليلات وانتقادات ولو أكاديمية أو صحفية عن هذا العالم، لا دراية لهم بعالم يصعب تقبل التنظير فيه، في غياب أي ممارسة حد أدنى، وسأقول لماذا:

إن العالم الافتراضي لا يخضع لمنطق ولآليات صناعة المعنى والجماليات والتواصل والتأثير والتبليغ، الذي هو مألوف مع اللغة الكلاسيكية الأبجدية. تعتمد اللغة الكلاسيكية الإدراك والتخيل والتعميم والتجريد والترميز، وكلها عمليات عقلية عليا تحرك الدماغ والملكات وتمكن من التمرس بالمعاني وبالإبداع… إلخ، أما اللغة السمعية البصرية فمنطقها مختلف، فهي تعتمد الجاهز دون عناء صوتا وصورة، ولا حاجة للمتلقي باستعمال عملياته العليا لاكتساب المهارات والكفاءات كما تم الشرح أعلاه.

إن اللغة الجديدة للسمعي البصري وللعالم الافتراضي تعلِّمُ الكسل والإغراء واللعب ومخاطبة الانفعال والمكبوت واللاشعوري، أكثر من مخاطبتها الوعي والعقل والمنطق. هنا يكمن المكر وهنا يكمن الخطر على الصغار وعلى الكبار والمتعلمين بأعلى الدبلومات أيضا طبعا.

ملاحظة أخيرة

إن اعتماد السلطات الوزارية والحكومية عموما على هذا النوع من الخطابات، وتكريم وتشريف ودعم أصحابها، وتمكينهم من أداء مهام التوعية بإجراءات وتبليغها لعامة الشعب بالإشهاريات الرديئة، وبالوصلات البليدة غير الجميلة ولا الذكية، تحت ذريعة ركوب أهداف ملامسة الأغلبية، وبتوظيف وجوه رموز التفاهة بدعوى الوصول والتواصل مع الشباب وعامة الشعب بلغة اليوم وبلغتهم (من قال إنها لغتهم؟! إنها لغة التكنولوجيات ولغة التجارة المعولمة والسيطرة الإيديولوجية النيوليبرالية!!)، بالنسبة لي خطأ جسيم، لماذا؟

إنه عمل سياسي حكومي (ينضاف إليه استقبال وأخذ صور مع بعض صناع الرداءة هؤلاء، بمن فيهم المنتجون لأعمال هجينة يدعون أنها تروج تمغربيت أو تراثنا الأصيل عالميا!) لا يفعل غير تكريس الرداءة وقيم الاستسهال والقدوات الضعيفة، خاصة وأن العلماء والمفكرين والمثقفين والفنانين الرصينين مُهملون ولا متنفسَ إعلاميًّا وتواصليا لهم بشكل شبه مطلق:

كم من برنامج أسبوعي مباشر قيِّم-خفيف وظريف ورصين في الوقت نفسه-يبث على شاشاتنا، يناقش ويعرض ويعرِّفُ ويقرب ويصحح ويُبسِّط دون تشويه ولا غوغائية ولا نمطية ولا تصنع ولا دوغمائية ولا إسفاف، الإنتاج الفكري والثقافي والعلمي والفني والذوقي المغربي في مختلف تجلياته وتنوعاته ومستوياته؟

The post ناقد مغربي يرصد معاكسة صناعة المحتوى لتحديث العقليات عبر انتشار التفاهات appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/iHOod6F

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire