ذاكرة بصرية طفولية تبني فيلم "لو كان يطيحو لحيوط" للمخرج حكيم بلعباس

تحدث الناقد المغربي محمد بنعزيز عن فيلم “لو كان يطيحو لحيوط” لمخرجه حكيم بلعباس، وقال إن العنوان مأخوذ من جملة كان يرددها ذلك الرجل العامل في السينما، والفيلم هو جواب مصوّر عن افتراض ماذا لو سقطت هذه الحيطان.

وتناول بنعزيز، في مقال له بعنوان “أنوية سردية منفصلة تتماسك تدريجيا”، مجموعة من الجوانب المرتبطة بفيلم “لوكان يطيحو لحيوط”، وأوضح أنه “بهدف الحفاظ على الواقعية والصدق، صوّر بلعباس شخصيات حقيقية كثيرة في بيئتها، واعتمد على عدد قليل من الممثلين الذين حضروا في مشاهد معقدة مثل مشهد المرضعة التي فقدت طفلتها…، كما اشتغل المخرج على الشخصيات الرئيسية والثانوية بنفس القوة”.

وأضاف “نكتشف مع فيلم “لوكان يطيحو لحيوط” مآل مدينة صغيرة هي نموذج مصغر لما صارت عليه الحيطان التي أهملت وهرمت… في مدن صغيرة داخلية هجرها أبناؤها نحو المدن الشاطئية الكبيرة، وحين يعود هؤلاء الأبناء إلى مدنهم الصغرى يدهمهم الحنين في اليومين الأول والثاني، ثم يعيشون الضجر بدءًا من اليوم الثالث فيهربون”.

هذا نص المقال:

ينتهي فيلم هندي ما ويمتد صوت أغنيته بعد منتصف الليل بينما يتجول مُشغل آلة العرض (35 ملم) رفقة طفل… يتمشيان ويتساءل الرجل عما سيظهر لو سقطت الحيطان.

“لو كان يطيحو لحيوط” (2022 من إخراج حكيم بلعباس) عنوان مأخوذ من جملة كان يرددها ذلك الرجل العامل في السينما، والفيلم هو جواب مصوّر عن افتراض ماذا لو سقطت هذه الحيطان.

ماذا سنرى؟

لكي لا تصطدم الكاميرا بالحيطان الساترة هدم حكيم بلعباس الجدار الرابع الوهمي الذي يفْصِل المشاهدين عن المشهد في مدينة طفولته. هدم المخرج الحيطان الهرمة المتآكلة الباهتة لكي يكشف ما يجري في الدروب الملتوية لمدينة صغيرة.

تتلصّص الكاميرا على العوالم الصّغرى لشخصيات تكدح من أجل الحدود الدنيا للعيش، تتلصّص على آثار ونُدوب الموت الذي لا يحترم تراتبية الأعمار.

نكتشف حكايات عُزلة، يكشفُ لنا صوت ارتطام الكرة المُعدل في الميكساج هشاشة الحيطان التي يعلب بينها الأطفال. ثم تكشف المراهنة هشاشة الرجل الذي يسكن تلك الحيطان… يقدم “الشيخ” الذي يمنح شهادة العزوبية للكهل نموذجا للفعالية الميدانية لالتصاق الإدارة بالمواطنين. بفضل صفر بيروقراطية يحصل المواطن على طلبه فورا.

بهدف الحفاظ على الواقعية والصدق صور بلعباس شخصيات حقيقية كثيرة في بيئتها واعتمد على عدد قليل من الممثلين الذين حضروا في مشاهد معقدة مثل مشهد المرضعة التي فقدت طفلتها… اشتغل المخرج على الشخصيات الرئيسية والثانوية بنفس القوة. تجرى حوارات قليلة لأن الكلام خلص أو فقد مفعوله. بفضل الاعتماد على أشخاص يعيشون في عين المكان سيتمكن الكثير من المتفرجين الذين يعرفون المكان من التماهي مع شخصيات الفيلم بسهولة.

يتجوّل بنا الفيلم بين الحيطان وهي الديكور المركزي في الفيلم، حيطان عتيقة مشبعة بنكهة الماضي، تبدأ كل حكاية من مكان ما، لا تجري الأحداث في مكان تجريدي. فخارج المكان، وخارج الزمان، هناك العدم، وليس لدى الكاميرا ما تلتقطه.
ماذا وراء الجدران العتيقة؟ ماذا خلف الحيطان الساترة؟ عزّزت المعايشة الطويلة للمكان قدرة المخرج على التعمق فيه، على القبض على نكهته، هكذا صار للحيطان أنف وعيون… بعد أن كانت لها آذان فقط.

سرديا، يتكون الفيلم من عدة أنوية متجاورة، حكايات مستقلة تشبه جارتها في بنيتها السردية، أنوية صغرى تبني بفضل المونتاج قصة كبرى. كل نواة سردية هي جزء من كل، لكنها تحتفظ باستقلالية وهوية خاصة.

يبدأ فيلم “لوكان يطيحو لحيوط” بمشاهد شاعرية غير سردية للحياة اليومية، مشاهد مشبعة بالحنين، هناك بطء في المقاطع الأربعة الأولى، كان البطء اختيارا جماليا بهدف الإمساك بالزمن الميت في حياة البشر. يعدّل حكيم بلعباس منهجه في النصف الثاني من الفيلم، صارت الحكايات أكثر تشويقا، جاء النصف الثاني من الفيلم أعلى إيقاعا وأكثر كثافة وتماسكا على صعيد الحكي.

لماذا يحتاج المشاهدون الحكي؟ لأن الأحداث التي لا تُقدم في سياق روائي تُنسى بسرعة حسب نسيم طالب. فالحكي وسيلة لتنظيم المعلومات، ولهذا تبعات: يسهل تنظيم المعلومات وتعاقبها فِعلَ التذكر لدى البشر.

(نسيم طالب، “البجعة السوداء تداعيات الأحداث غير المتوقعة”، ترجمة حليم نسيم نصر، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1 بيروت 2009، ص117- 123). يضيف الكاتب: تسهل القواعد والنظم تقليص المسائل ليدخلها البشر في رؤوسهم، بينما يصعُب استيعاب المعلومات العشوائية. وهذا التنظيم السردي ضروي حتى أن نسيم طالب يتحدث “عن اعتمادنا البيولوجي على الحكاية” لتفسير أفعالنا. والمكان الذي تعيش فيه الشخصيات عنصر مهم في التفسير.

كانت وحدة المكان هي الخيط المرئي الرابط بين متوالية الحكايات. المكان من أكثر المفاهيم وضوحا في الهندسة، هو السطح والطول والعرض والعلو والعمق. وعندما نرى كيف يتحرك الممثل والكاميرا في هذا الفضاء تظهر لمسة الإخراج. هناك وحدة مكان ووحدة حدث وتعدّد في الشخصيات… يقدم حكيم بلعباس كتالوج وجوه من المغرب العميق، بورتريه وجوه من زمن مضى: ماسح أحذية يعتني بحذائه، يتسلى بتلميعه لأنه لا زبناء له، للخلاص من هذا المكان المقفر يركب اللص من منعطف ومرتفع ويهرب.

تظهر لمسة الأسلوب على الموضوع. إن الفيلم محاولة للقبض على زمن مضى، التقط الفيلم إيقاع الحياة البطيء في المغرب العميق… للعلاقة بالمكان جانب أوتوبيوغرافي… روى حكيم بلعباس أنه في صغره كان يرافق عامل آلة العرض (اسمه مصطفى الشباني) في سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي… بهذا الشكل فالفيلم حكي استيعادي بصري لما يحتمل أن يكون جرى خلف الحيطان من حب وعنف وفوارق… توجد صلة بين طبوغرافية المكان وطبيعة الشخصيات التي تقطنه.

بُني الفيلم على تفاصيل ذاكرة بصرية طفولية تشتبك فيها الشخصية بالمكان. الفيلم هو عبارة عن مقاطع تتكامل لتقديم بورتريه لوجوه وأمكنة رسخت في ذاكرة طفل عاش هناك ذات زمن.

لقد منح البحث الأسلوبي الحكي أبعادا جديدة. يظهر أن هناك تفكيرا في الأسلوب والشكل الذي يعرض به المخرج موضوعه، ولديه وعي بالتقنية التي يسرد بها قصته. تمثل العجوز عين المشاهد وهي تجلس لتشاهد، سينما في السينما. هناك سرد دائري في الفيلم، يبدأ بشاشة وينتهي بها، نرى السينما والعالم بعين عجوز… تكتشف حياة مختبئة خلف حيطان ساترة.

عاد حكيم بلعباس من أمريكا إلى دروب طفولته في حكي استعادي بصري لما عاشه في مدينة بجعد. عمل السيناريو على التحرر من السرد الخطي بتقديم حكايات متجاورة تتكامل لتحكي تاريخ مدينة. نكتشف مع فيلم “لوكان يطيحو لحيوط” مآل مدينة صغيرة هي نموذج مصغر لما صارت عليه الحيطان التي أهملت وهرمت… في مدن صغيرة داخلية هجرها أبناؤها نحو المدن الشاطئية الكبيرة… وحين يعود هؤلاء الأبناء إلى مدنهم الصغرى يدهمهم الحنين في اليومين الأول والثاني ثم يعيشون الضجر بدءا من اليوم الثالث فيهربون. هكذا أشعر كلما زرت مدينة طفولتي.

The post ذاكرة بصرية طفولية تبني فيلم "لو كان يطيحو لحيوط" للمخرج حكيم بلعباس appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/BjkNbsX

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire