الشقوري يتساءل: كيف نقوم بممارسة الدين بشكل عام وفي لحظة زمنية معينة؟

قال الباحث جواد الشقوري إن “هناك علاقة بين التدين ومدارس الفكر الإسلامي بشكل عام؛ وهي علاقة جدلية تربط الدين بالتدين وبهذه المدارس”، مضيفا أن “أشكال التدين متعددة؛ وهو تعدد يدور حول ثوابت الدين ومنضبط بها؛ وبدونها لن تكون للدين أي هوية خاصة به، وسينفتح على دلالات متغيرة تفقده أي معنى”.

وتطرق الشقوري، في مقال له بعنوان “مقاييس التدين بالإسلام والثنائيات القاتلة!”، إلى مجموعة من المحاور المرتبطة بالموضوع، من بينها “التدين والثُنائيات القاتلة!”، و”التدين وجدلية المسافةِ والقُرب”، و”التدين والإقبال على الحياة”، و”ارتباط التدين بالحركات الإسلامية!”، و”الإسلامُ والفردوس الأرضي”.

هذا نص المقال:

يُجيب التدينُ عن سؤال: كيف نمارس الدين بشكل عام وفي لحظة زمنية معينة؟ والإجابة عن هذا السؤال تقتضي فهمًا معينا للدين وللواقع أيضا (اللحظة الزمنية)، وهذه الفهوم تتعدد وتتنوع. لكن هناك ثوابت وجوهر يجمعها (كالتوحيد مثلا والعبادات بشكل عام).

وهذه الفهوم عندما تتحول إلى ممارسة تصبح تديُّنا؛ فمدارسُ الفكر الإسلامي المختلفة لها فهومها الخاصة (فهم الدين وفهم الواقع)، وتعمل على تنزيلها في الواقع، وقد تتوسل بمجموعة من الوسائل والآليات لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي فإنها تخلق نمطا معينا من التدين داخل المجتمع.

فهناك علاقة بين التدين ومدارس الفكر الإسلامي بشكل عام؛ وهي علاقة جدلية تربط الدين بالتدين وبهذه المدارس.

وبما أن الفهوم تتعدد فإن أشكال التدين، بالتالي، متعددة؛ وهو تعدد يدور حول ثوابت الدين ومنضبط بها؛ وبدونها لن تكون للدين أي هوية خاصة به، وسينفتح على دلالات متغيرة تفقده أي معنى.

التدين والثُنائيات القاتلة!

التفكيرُ من داخل الثنائيات الصارمة لا يؤدي دائما إلى استنتاجات دقيقة؛ فإذا أخذنا على سبيل المثال ثنائيةَ “التديّن الخالص” و”اللاتديّن الخالص” سنجد أن التفكير من داخلها لن يقود إلى استنتاجات مُتسقة.

التدينُ- في المنظور القرآني- لا ينفي إمكانيةَ الاقتراب من العناصر التي يتشكّلُ منها “اللاتديّن”؛ فإذا ضربنا- مثلا- بـ”فِعلِ الفواحش” و”ظُلمِ النفس” باعتبارهما علامَتين من العلامات المُشكّلة لـ”اللاتدين”، سنجد أن القرآن الكريم جعلهما من علامات التقوى (التدين) وصفات المتقين (أي المتدينين).

فالجَنّة أُعدت للمتقين الذين “إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ” [آل عمران: 135].

ليست المسألةُ مسألةَ تدين خالص أو لاتدين خالص!

إن الأساس هو تلكم الحالة المصاحبة لفعل التدين أو فعل اللاتدين (استحضار الله، عدم الإصرار…).

وهو الأمر الذي أكدته تتمة الآية: “ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.

فالأساس هو كيف تكون حركة/ حالة القلب عندما يتعامل مع مفردات الواقع والحياة!

وحالة/ حركة القلب هاته هي التي عبّر عنها أحمد بن عطاء الله السكندري رحمه الله بقوله: “رُبَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً”.

وحركة القلب في الرؤية الإسلامية حركةٌ دائرية (إقبال- إدبار- إقبال… وهكذا).

ومن ثمَّ فإن تلك الدراسات التي ترومُ قياسَ معدّل أو درجة التدين أو اللاتدين داخل مجتمع ما ستفشل في إدراك مرادها، وستنقصها الدّقة.

وعليه، فإن الوعي بالمعطى السابق يُساعد في فهم الكثير من الأحداث المفصلية التي عرفها التاريخ الإسلامي.

فالإسلامُ لا يُبشّر بالفردوس الأرضي، ولا بمجتمع مثالي ليس فيه عصاة أو مذنبون؛ فـ”التدين” بوجه من الأوجه قد يتضمن “عناصر” من “اللاتدين”!

لكن في المقابل، يكون اللاتدين مشكلةً في نظر الإسلام لَمَّا يصدرُ من قلبٍ متكبرٍ، فيتحول إلى أداة للاستكبار والعلوّ في الأرض.

ونستحضر في هذا السياق مقولة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله: “المعاصي لا تَحجبُ عن الله. الاستكبارُ هو الذي يَحجبُ عن الله”.

التدين وجدلية “المسافةِ والقُرب”

كَونُ الإنسانِ مؤمنًا بالله وملتزما بأوامره ونواهيه لا يعني أنه “تَماهى” مع الله سبحانه وتعالى… ولا يُخوّله- إيمانُه- أن يتعامل مع الناس و”كأنه الله”!؛ فأشرفُ الخلقِ محمد عليه الصلاة والسّلام في أسمى اللحظات (المعراج) لم ير الله عز وجل (فكان قاب قوسين أو أدنى).

ومع المسافة التي تفصل بين الإنسان وخالقه، فإن الله قريب من عباده، كما أنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

طبعا أظن أنه ليس هناك من المسلمين مَن يعتقد بـ”تماهيه” مع الله سبحانه وتعالى، لكن قد توحي بعض التصرفات والتمثلات بذلك؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالحكم على إيمان الناس والتنبؤ بمصيرهم.

إنّ الوعي بجدلية “المسافة والقرب” بين الإنسانِ وخالقه سيجعل الإنسانَ يتواضع في تعامله مع الناس، وسَيُمَكِّن الأفرادَ كما الجماعاتِ من إضفاء النسبية على اجتهاداتهم وقراءاتهم المختلفة للدين.

التدين والإقبال على الحياة

الإقبالُ على الحياة ليس معيارا للحكم على تراجع التدين داخل مجتمع ما كما يظن البعض! بل على العكس! قد يكون الإقبال على الحياة معيارا لتنامي الوعي الديني الصحيح؛ لأن هناك نصوصا كثيرة تدعو إلى ممارسة الحياة في مختلف مجالاتها، وأروع تصوير لهذه المسألة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل).

كما قد يكون الإعراض عن الدين موجبا للانسحاب من الحياة، وبعدة طرق منها الانتحار مثلا…

إنَّ وَضْعَ التدين في تقابل مع الإقبال على الحياة ينم عن فقر فكري وشرعي وثقافي وحتى إعلامي!

ينطلق القرآن من كون الدنيا مُسخرة للإنسان ليستفيد منها في حياته؛ والملاحظ أن القرآن يستعمل كلمة “المشي” عندما يتعلق الأمر بالإقبال على الدنيا (فامشوا في مناكبها…)، والتي تعني الروية وألا تكون الدنيا هي المقصد… أما عندما يتعلق الأمر باليوم الآخر فيستعمل القرآن كلمات من قبيل: سابقوا، سارعوا؛ ففي التصور الإسلامي قد يكون الإقبال على الحياة أو الدنيا معيارا للتدين السليم وقد يكون معيارا لعدم التدين.

ليس الإشكال في الإقبال من عدمه، إنما الإشكال هو: كيف نُقبل على الحياة؟ ما هي المرجعية الأخلاقية التي من خلالها نمارس الحياة؟ ما هي رؤيتنا للحياة؟ المشكلة في الرؤية وليس في الإقبال أو عدم الإقبال على الحياة.

ارتباط التدين بالحركات الإسلامية!

يتوهّمُ البعضُ أن التديّنَ في المجتمعات العربية والإسلامية مرتبطٌ بالضرورة بالحركات الإسلامية؛ فإذا تراجع حضورُ هذه الحركات داخل المجتمع؛ ثقافيا أو اجتماعيا أو سياسيا…، تراجعَ التدين ومظاهره داخل هذا المجتمع!

وهذه مغالطة كبيرة؛ رُبّما كرّستها بعضُ الحركات عندما قدّمت نفسها للناس باعتبارها النموذجَ الأقربَ (بل حتى المتماهي عند البعض) إلى الإسلام.

والغريب أن هذه المغالطةَ يُعيدُ إنتاجَها خصومُ (وأعداء) هذه الحركات، عندما يربطون التدينَ داخل المجتمع بالتراجعات التي تعرفها الحركات الإسلامية، خاصة في المجال السياسي والاجتماعي…؛ فيتم النظر إلى بعض مظاهر التدين داخل المجتمع وكأنها “ماركة مسجلة” من طرف هذه الحركات!

الحركاتُ الإسلامية تعبيرٌ من التعبيرات وقراءةٌ من القراءات للإسلام؛ والتدين مُتجذّرٌ داخل المجتمع قبل ظهور هذه الحركات، وهو أعمق من أن يُختزل في عملها واجتهاداتها.

وعندما نُكرّس- فكريا ومنهجيا- وَهْمَ التماهي (المقصود وغير المقصود) بين التدين والحركات الإسلامية، فإننا نَحرمُ أنفسنا من رؤية أشكال ومظاهر أخرى من التدّين المجتمعي قد تكون أقرب إلى روح الإسلام وبساطته.

الإسلامُ و”الفردوس الأرضي”

وبعد، فإن الوقوف على الأرضية الإسلامية لا يعني العيشَ في “الفردوس الأرضي”؛ فالمجتمع الذي ينطلق من الإسلام ليس بدعًا من المجتمعات البشرية؛ إذ يسري عليه من السنن ما يسري على المجتمعات الأخرى. وليس هناك في أي مجتمع ما يمكن وصفه بـ”النقاء الأخلاقي” أو “مجتمع الملائكة”.

إن هيمنة الإسلام على حياة الناس ومناحيها تَعني- فيما تعنيه- أن الإنتاجات العلمية والإبداعات الفنية والإنجازات العمرانية… تسترشد بالرؤية الإسلامية الكُلية للحياة والكون والإنسان. ولا تمنع هذه الهيمنة من ظهور انحرافات فردية وجماعية على المستوى التصوري والأخلاقي…

ومن ناحية أخرى، فإن بُطلان فكرة “الفردوس الأرضي” في النسق الإسلامي نابعٌ من تصور الإسلام لقضية الزمن؛ إذ الزمن زمنان؛ زمن الدنيا المحدود وزمن الآخرة الأبدي.

وهكذا ستُمكّننا هذه الرؤية من النظر بشكل سليم إلى التجربة الإسلامية التاريخية؛ فنميّز بين الإسلام الوحي والإسلام التاريخ.

The post الشقوري يتساءل: كيف نقوم بممارسة الدين بشكل عام وفي لحظة زمنية معينة؟ appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/n7tYjkG

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire