صورٌ من تدبير المغاربة للاختلاف قبل الاحتلال الروماني، وقبل دخول الإسلام، عبر الاتحادات والأحلاف القبلية والاتفاقيات والممالك، وأثر ذلك في انتشار الأبجدية الليبية الأمازيغية، والكتابتَين البونية فاللاتينية، يحضر في دراسة للباحث عبد العزيز أكرير، ضمها كتاب جماعي صادر عن الجمعية المغربية للبحث التاريخي.
وردت هذه الدراسة في كتاب “تدبير المغاربة للاختلاف – استلهام لأساليب التعايش وقبول الآخر”، الذي نسقه الباحثان لطيفة الكندوز والوافي نوحي.
كاتب “تاريخ المغرب القديم من الملك يوبا الثاني إلى مجيء الإسلام” قارب موضوع الدراسة عبر مدى زمني يتراوح بين نهاية القرن 2 قبل الميلاد ونهاية القرن 7 الميلادي، مع التوقف عند بعض النماذج الواردة في “المصادر القديمة”، التي يعود بعضها لفترة الاحتلال الروماني وبعضها الآخر إما سابق لهذه الفترة أو لاحق لها، مع التركيز على مجال قبيلتي المور والكَيتول.
وتذكّر الدراسة بأن “فضاء المغرب قد توزع قديما بين ثلاثة نطاقات أو أقاليم مختلفة، سكنتها مجموعات متعددة من القبائل؛ بحيث نجد من الشمال إلى الجنوب نطاق المور أو ماوريطانيا، ثم نطاق الكَيتول أو كَيتوليا، وأخيرا نطاق الإثيوبيين”، وهي نطاقات “اختلفت في ما يخص طبيعتها الجغرافية وخيراتها ونمط عيش ساكنتها وتعميرها وكثافتها السكانية”.
هذه المعطيات “فرضت على شعوب المغرب وقبائله المستقرة منها والراحلة، وعلى مدنه أيضا، التكيف معها، والميل إلى التعاون والاتفاق للاستفادة من هذا الاختلاف والتنوع، والتمكن من استغلال المجالات المتداخلة الحيوية لعيشها، وتفادي النزاعات والخلافات”.
وسعت ساكنة المغرب القديم إلى حل الخلافات وتفادي الصراع وتحقيق نوع من التكامل عبر “هيكلها الأساسي، الذي انتظمت حوله الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والدفاعية، وهو القبيلة أو الاتحادات والأحلاف القبلية، التي تطور بعضها، خصوصا بالمجال الموري، إلى ممالك قوية”.
وهي اتفاقات “كان لها دور مهم في خلق حالة من الاستقرار والسلم، استفادت منها كل المكونات القبلية والمدينية، وسهلت تفاعلها مع بعضها البعض على جل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”.
وتابعت الدراسة: “كانت القبيلة ممثلة خصوصا في رئيسها، الذي أطلقت عليه المصادر اللاتينية عادة لقب “Princeps” (رئيس)، ولعب أدوارا متعددة قضائية ودينية وعسكرية (…) كان يضمن إضافة للدفاع عن منتسبي القبيلة الكبرى التي ينتمي إليها والقبائل الأخرى الصغرى المنضوية تحت لوائها استفادتهم من المجال المشترك بينهم، والبت في النزاعات والخلافات بين المكونات القبلية المختلفة؛ كما كان يتولى عقد اتفاقات من أجل التعاون وتفادي الحرب والحفاظ على علاقات جيدة مع القبائل الكبرى المجاورة”.
وقدم الباحث أمثلة برؤساء قبائل من المغرب عقدوا اتفاقات “خلال القرنين الثاني والثالث للميلاد مع سلطات الاحتلال الروماني”.
وواصل المصدر ذاته: “كانت أحيانا بعض هذه القبائل الكبرى، توسيعا لإطار التعاون في ما بينها، تتحد مع بعضها، فتختار قائد القبيلة الأقوى داخل الاتحاد رئيسا لها، كما حدث بالنسبة للباكواط والمكنيتيين، وبالنسبة لقبيلَتي الباكواط والباوار”.
ورجح الباحث أن من أسباب ظهور هذه التكتلات أو الأحلاف القبلية “ضمان التعاون بين هذه القبائل الكبرى، وتفادي الصراع حول استغلال المجالات المتداخلة المشتركة بينها، وخلق تكتل كبير للدفاع عن مصالحها بالطرق الدبلوماسية تجاه قوة الاحتلال الروماني بإقليم ماوريطانيا التنكَية بالنسبة للباكواط والمكنيتيين، وإقليم القيصرية بالنسبة للباوار، إضافة إلى خلق توازن مع قبائل الكَيتول الرحل الجنوبية، وتحقيق الاستقرار والأمن للساكنة المورية المجاورة لهم”.
وفسر عبد العزيز أكَرير مفاوضات رؤساء قبائل مع ممثلي السلطة الرومانية بالإقليم، ولقاءاتهم معهم، بـ”تنظيم العلاقات بين الطرفين، خصوصا في ما يرتبط بالاستغلال الموسمي من قبل بعض المجموعات المنتمية إلى هذه القبائل المورية المستقلة لأراضي الرعي التي ضمها الرومان عند إقامتهم لإقليم ماوريطانيا التنكَية، أو ولوج مدن هذا الإقليم والاستفادة من أسواقها وورشاتها. ومقابل ذلك أمّنت هذه القبائل عبور الرومان واتصالهم برا بإقليم القيصرية، عبر مضيق تازة والمسالك الأخرى”.
ولم تستبعد الدراسة أن يكون الهدف غير المعلن لهذه المفاوضات بالنسبة للرومان “الربط بين الإقليمَين، بالإضافة إلى تجنيد محاربين قبليين مور عند الحاجة؛ أضف إلى ذلك تكثيف الاتصال التجاري بين الإقليم الروماني وحواضره ومجال هذه القبائل، عبر ضمان سلامة تحرك التجار الرومان داخله”.
هذه الاتفاقات واللقاءات مكنت “القبائل المورية المجاورة للإقليم من الاحتكاك بالحضارة الرومانية، وانفتاح قادتها على الثقافة اللاتينية وترومنهم، بل منهم من حصل على المواطنة الرومانية مثل بعض قادة الباكواط”.
ومن مظاهر هذه المثاقفة “تبني التقويم السنوي الروماني، المسمى بالتقويم اليولياني، الذي يوافق السنة الفلاحية الأمازيغية المعمول بها إلى حد الآن في بعض المناطق المغاربية، وبكيفية واسعة في المناطق الجبلية المغربية”.
وسجلت الدراسة أن “الممالك المورية” كانت “تتويجا للاتحادات القبلية بالمغرب القديم، وتجسيدا للتعاون؛ حيث تولت تنظيم العلاقة من جهة بين القبائل المورية المتعددة، ومن جهة أخرى بين هذه القبائل والمدن المستقلة، التي وجد أغلبها على الساحل وجنبات الأنهار بالمجال الموري، والتي يمكن اعتبارها بوابات ونوافذ مشرعة لماوريطانيا وملوكها وقبائلها على الخارج ثقافيا وتجاريا، إذ كانت هي الواصل الأساسي بين هذه القبائل وبين البحر الأبيض المتوسط بحضاراته وشعوبه، من فينيقيين وقرطاجيين ورومان”.
وساهمت هذه الممالك، حسب المصدر ذاته، “في تذويب التناقضات بين القبائل والمدن، وتحقيق تكامل وتعاون بينهما في غالب الأحيان، ما كان له بالغ الأثر على الساكنة المحلية التي استفادت من التقدم الكبير الذي كانت تعرفه هذه المدن، سواء على المستوى المادي، وخصوصا منه استعارة بعض التقنيات مثل تلك المرتبطة بصناعة الخزف، أو المستوى الثقافي، وخصوصا منه استعارة الخط البوني في الكتابة، قبل أن يستبدل بالخط اللاتيني”.
كما تحدث الباحث عن دور هذا الانفتاح في “ظهور الكتابة الليبية الأمازيغية منذ القرن 6 قبل الميلاد على الأقل، التي استمر استعمالها طيلة العصور القديمة”.
وربطت الدراسة ضعف قوة “الممالك المورية” بوصفها “عنصرا قادرا على خلق التوازن بين الطرفين القويين بالمغرب القديم (المور والكَيتول)” بـ”بداية الاحتلال الروماني”.
وبعد فترة الاحتلال الروماني، ذكرت الدراسة أنه “ظهرت بشمال المغرب المستقل مملكة قبَلية، خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين، في الفترة نفسها التي ظهرت بها مملكة مستقلة أخرى بغرب الجزائر”؛ وهي مملكة “تشكلت من اتحاد قبلي شمل نفوذه سهل الغرب ومنطقة وليلي وما والاها، وأيضا المناطق الممتدة إلى نهر ملوية”.
هذا الاتحاد استمر “إلى حدود وصول الجيوش العربية مع عقبة بن نافع خلال النصف الثاني من القرن 7 الميلادي”، وقد كان كيانا سياسيا “شكلت المسيحية على ما يبدو، والعادات القبَلية، لحاما قويا له، واحتوى حواضر مُتَرَوْمِنَةً مثل وليلي، سمح لها بالحفاظ على مؤسساتها وثقافتها الرومانية، إضافة إلى قلاع ومراكز أهلية مثل سقومة (…) على مقربة من فاس”.
هذه القوة سهرت، وفق الدراسة، على “ضمان التعاون بين مكوناتها القبلية والمدينية لاستغلال أمثل للأراضي وتفادي الصراع، وإيجاد حلول للخلافات بينها، كما كانت وراء توحيد المدن المترومنة والقبائل المحافظة على عاداتها الموروثة في مقاومة المسلمين خلال النصف الثاني من القرن السابع الميلادي تحت زعامة كسيلة الأمازيغي المسيحي”.
The post دراسة تعرّف بتدبير الاختلاف وتفادي الصراع قبل دخول الإسلام إلى المغرب appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/SONYiHQ
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire