في بحث ميداني تُوج المجهودُ العلمي المبذول فيه بكتاب موسوم بعنوان “فكيك.. الواحة المكلومة”، يسلط الباحثان حسن احجيج وجمال فزة، وهما أستاذان باحثان في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، الضوء على واقع مدينة فجيج، الواقعة في أقصى نقطة شرق المملكة على الحدود مع الجزائر، وأحوال أهلها المتقلبة بين ضم الجارة الشرقية لأراضيهم وإغلاق الحدود بين البلدين وما ينجم عنه من خسائر على المستويين المادي والاجتماعي.
يورد الباحثان شهادة سيدة من مدينة فجيج، تُدعى لطيفة، تقول: “كنتُ أرافق جدي على ظهر حمار، ومعنا خالي الذي كان يقرُبني سنا، ونعود محملين من بساتين زوزفانة التي يشتغل فيها جدي خماسا بكل أنواع الخضر والتمر والفواكه. كانت تكفينا ونوزع منها على جيراننا وأقاربنا في إطار التضامن والتبادل”.
ويعلق مؤلفا كتاب “فكيك.. الواحد المكلومة” على شهادة لطيفة بالإشارة إلى أنها “ليست وحدها مَن تبكي الأراضي الضائعة”، لافتين إلى أنهما استخلصا من عملهما الميداني أن “كل المشاركين في البحث يعترفون بالتأثير الكبيرة لترسيم الحدود وإغلاقها بين الجزائر والمغرب على حياة الواحة”.
ورغم أن ضم أراض شاسعة من تراب فجيج، آخرها الاستحواذ على واحة العرجة سنة 2021، أصبح أمرا واقعا، إلا أن الفجيجيين لا يزالون متمسكين بأن الأراضي المنزوعة منهم قهْرا هي أراض مغربية، وتؤكد ذلك شهادة وردت في الكتاب على لسان فاعل جمعوي قال فيها إن “أهل فجيج يمتلكون في منطقة الملياس جنانات وصهريجا بعقود شراء. يعني أن بني ونيف كانت لأهل فجيج. هنا في الواحة كانت بني ونيف بالنسبة لسكان الواحة حديقة صغيرة للتنزه”.
ويستنتج فزة واحجيج، من خلال بحثهما الميداني، أن الحدود الإثنية الفجيجية “ليس في الواقع حدودا ترابية بالضرورة، بل هي بالأساس حدود اجتماعية. إنها لا تفصل الجماعات فصلا تاما عن بعضها البعض، وإنما هناك تدفق دائما للتبادلات العاطفية والرمزية التي تحركها مشاعر الانتماء والعلاقات التاريخية، فأهل فجيج يعتبرون سكان المناطق المجاورة الموجودة في الأراضي الجزائرية أعضاء ينتمون إلى جماعتهم الإثنية رغم الحدود الجغرافية الفاصلة بين المغرب والجزائر”.
وتزكي هذا الطرحَ شهادة سيدة من أهل فجيج تقول: “جدي من جهة أمي مدفون في بشار، وعمي وعمتي مدفونان في وهران، وما زال أبناؤهما يعيشون هناك. كان التبادل كبيرا ومستمرا بين المنطقة الشرقية المغربية والجزائر. كان ذلك في عهد فرنسا التي نعتبرها كافرة. كان الناس يدخلون ويخرجون بحرية. كان أهل فجيج يسافرون من بني ونيف لأنهم كانوا جميعا يعرفون مواقيت القطار بمحطتها. تصور أنهم كانوا يسافرون إلى وجدة عبر القطار الجزائري الذي ينقلهم إلى وهران، ومنها ينتقلون إلى وجدة”.
حاليا، لم يعُد بوُسع أهل فجيج زيارة أقاربهم الموجودين في بني ونيف بالجزائر، التي لا تفصلها عن فجيج سوى 7 كيلومترات برا فقط، بالسهولة التي كان عليها الأمر في السابق، ذلك أن سبعة كيلومترات الفاصلة بينهم حولها قرار إغلاق الحدود بين البلدين إلى 4000 كيلومتر، حيث يقطعون مسافة طويلة جدا برا من فجيج إلى مدينة الدار البيضاء، ثم جوا إلى الجزائر أو وهران، ثم برا من هناك إلى بني ونيف.
ويشير مؤلفا الكتاب إلى أن الذاكرة الجماعية لأهل فجيج ما زالت تستحضر قصر بني ونيف الموجود اليوم في التراب الجزائري، كقصر ثامن لفجيج، التي تتكون حاليا من سبعة قصور، مُبرزيْن أن الفجيجيين فقدوا “أطنانا من المحاصيل الزراعية التي كانوا يأتون بها من بني ونيف في وقت الحصاد”، بفعل ترسيم الحدود الوطنية بين المغرب والجزائر.
وتوقف الباحثان عند أهم المحطات التاريخية التي شهدت منع الفجيجيين من استغلال أراضيهم في عهد الحماية من 1954 إلى 1956، “لكن الحدث الذي عمق الجرح أكثر من غيره”، يورد الباحثان، “هو مصادرة الجزائر سنة 1976، كرد على المسيرة الخضراء، لأراضي المعادر الواقعة على ضفاف الأودية، التي كانت تمثل مصدر الثروة الاقتصادية لفجيج بفضل بساتينها المسقية بمياه واد زوزفانة”.
ويقدر الفجيجيون عدد أشجار النخيل المصادرة من طرف السلطات الجزائرية بعد عملية ضم أراضي “المعادير” بـ130 ألف نخلة، كانت تنتج سنويا زهاء 11 ألف طن من التمور و5000 طن من الأعلاف و5000 طن من الحبوب.
وإذا كانت مأساة أهل فجيج في الماضي مرتبطة أساسا بمسألة ترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، وتدخل هذه الأخيرة للاستحواذ على أراضيهم، فإن شباب الواحة حاليا يلقون بمسؤولية وضعيتهم الاجتماعية “المأساوية” على كاهل الدولة المغربية.
يُورد الباحثان حالة علي، وهو شاب على مشارف عامه الأربعين، يشتغل مياوما في البناء والفلاحة، ولم يسعفه حظه في الهجرة كما فعل إخوانه وكثير من شباب الواحة، مشيريْن إلى أن الشباب الذين يوجدون في فجيج ويشتغلون في أعمال موسمية، على غرار علي، يشعرون بالدونية، لأنهم لم ينجحوا في مغادرة الواحة، ولم يحصلوا على وظيفة عمومية قارة.
وإذا كانت فجيج قبل آلاف السنين مركزا للصناعة والتجارة، تتوافد عليها القوافل المغربية المتجهة نحو الجنوب أو القوافل القادمة من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، لبيع العاج وريش النعام ومسحوق الذهب، وشراء التمر والصوف والبرنوس، فإنها اليوم غدت “واحة مكلومة”، كما وصفها الباحثان في عنوان كتابهما.
وينعكس هذا الوصف على واقع “المدينة المعمورة والندية، التي فيها ما يشهد على الغياب”، كما وصفها الباحثان، ذلك أن كثيرا من دكاكينها المرصوفة على الشارع الرئيسي تبدو عليها علامات الإغلاق طويل الأمد، من خلال “الغبار السميك المتلبد على واجهاتها الخشبية التي تتخللها في بعض الأحيان شقوق عريضة قد تسمح لك بإلقاء نظرة على ما يوجد بداخلها فتُدرك أنها تعرضت للهجران”.
يسأل الباحثان صاحب مطعم بعد أن حالفهما الحظ ووجدا لديه “طاجينا”، عن أسباب الركود الذي تعرفه فجيج، فيجيب: “الحدود… إنه إغلاق الحدود، وحين تُغلق الحدود تُغلق معها أبواب الرزق وتتغير أشياء كثيرة، وحتى طباع الناس تتغير”.
The post "الواحة المكلومة".. كتاب يروي مأساة الفجيجيين بسبب الحدود مع الجزائر appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/vhHpAaQ
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire