ترجمة معاني القرآن الكريم في ضوء اللسانيات الحديثة

توطئة

لا يخفى على أي باحث في الدراسات اللغوية الحديثة الدور الريادي الذي تقوم به اللسانيات في سبيل خدمة اللغة، بمستوياتها المختلفة. كما لا يخفى على أي باحث في الترجمة المكانة التي أولاها العديد من الباحثين في الترجمة للسانيات، إلى درجة أن ظهرت العديد من النظريات تجعل من هذا العِلم (اللسانيات) عنصرا إيجابيا في دراسة عمومية الترجمة؛ حتى استُغل في العديد من الترجمات، أهمها ترجمة النص الديني.

لقد خلقت مسألة ترجمة معاني القرآن الكريم الكثير من الجدال، خاصة بين المجالس العلمية في الوطن العربي وبين المترجمين أنفسهم، سواء العرب أو المستشرقين.

إن تطبيق المناهج الغربية في دراسة القرآن الكريم يجعل هذا النص ينفتح على عوالم أخرى تزيد من شرحه ووصفه وتسهم بما لا يدع مجالا للشك في كشف معاني القرآن الكريم وتجاوز تلك الدراسات التي تدرس بعضها ولا تزيد شيئا عما قاله الأقدمون. وسيدور حديثنا في هذه الدراسة حول مدى إسهام أو إمكانية استخدام الترجمة اللسانية بوصفها علما تطبيقيا في ترجمة معاني القرآن الكريم، بمعنى آخر كيف نستغل ونوظف النظرية اللسانية وتطبيقاتها في قضايا الترجمة من أجل الكشف عن معاني القرآن الكريم في اللغة الهدف؟ وهذا ما سيقودنا إلى مقاربة فريدة من نوعها تتعلق بتطبيق منهج لساني غربي على الدراسات القرآنية، في محاولة منا لأجل إثبات هذا الزعم.

القرآن الكريم نص لغوي قابل للتحليل والترجمة

يعد النص القرآني نصا ربانيا، يختلف عن باقي النصوص بالمصدر الإلهي؛ ذلك أنه كلام الله تعالى الذي نُزِّل على محمد ﷺ بواسطة جبريل ملاك الوحي والمنقول إلينا بالتواتر. وهذه الخاصية تجعله ينفرد عن غيره من النصوص ذات الصنع البشري التي تنفتح على العديد من المعاني والتأويلات، وتحتمل الخطأ والصدق والكذب. وقد نزل هذا الكتاب على منطق العرب ولغتهم؛ إلا أنه يفوق، في سبكه ونظمه وألفاظه ومعانيه، لغة العرب. يقول تعالى: ﴿وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر لِّسَانُ الَّذِي يُلحِدُونَ إِلَيهِ أَعجَمِيّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُّبِينٌ﴾، (النحل الآية: 103)، إلى درجة أن تحدى الله العرب الإتيان بمثله يقول تعالى في محكم تنزيله: ﴿وإِن كُنتُم فِي رَيب مِّمَّا نَزَّلنَا على عَبدِنَا فَأتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثلِهِ﴾. (البقرة، الآية: 22). ولا يمكن لهذا التحدي أن يأتي من فراغ؛ بل يحمل في مضانه قوة روحانية بعيدا عن كل المعاني المتضمنة. وهذا ما يجعله يتفرد بخصائص فريدة عن غيره، وأعطى العرب في ظل الإسلام القرآن الكثير من الأهمية، من خلال تحليل وتفسير ودراسة متنه، فظهرت دراسات جادة تبحث في إثبات إعجازه العلمي واللغوي والبلاغي، والإعجاز الترجمي الذي قال به زاهيد… وهلم جرا.

وتعد اللسانيات مادة علمية تحمل الكثير من الأدوات التحليلية والوصفية والتفسيرية تسهم في الكشف عن عظمة النص القرآني وبيانه ونظمه الفريد. واقتحمت اللسانيات المجال العلمي للعديد من العلوم الإنسانية والحقة؛ حتى أصبحنا الآن نتحدث عن لسانيات العلوم الطبيعية والتجريبية والإحيائية، نظرا لما تقدمه من جرد لغوي لمصطلحات العلوم وتراكيبها ومعاني مفرداتها الأصلية منها والمترجمة والدخيلة.

والقرآن كتاب رباني مبني على نسق لغة العرب، بكل ما تحمله من بُنى نحوية وأسلوبية ومعانٍ معجمية وصرفية، تجعل القرآن قابلا للدراسة والتحليل وفق منهج لا يضُرّ به وبمعانيه وبرسالته. لقد بنيت العديد من العلوم العربية خدمة للقرآن ورسالته، من قبيل علم البلاغة وعلم النحو وعلم الصرف…وغيرها، وكانت هذه العلوم تحترم الصيغة القرآنية لدرجة كبيرة، وفي مواقف كثيرة نرى القواعد النحوية تتغير فقط لظاهرة استثنائية في القرآن، من قبيل التقديم والتأخير أو حذف، نظرا للمعيارية التي يتميز بها النحو.

لقد قُدِّمت العديد من الدراسات خلال العصر الحديث تحاول أن تقارب النص القرآني من منظور الاتجاهات الحديثة في تحليل النصوص، من قبيل نظرية التلقي الأدبية أو السيميائيات بمختلف فروعها أو الاتجاهات شبه لسانية كالتي قام بها محمد أركون. وحاولت هذه الدراسات أن ترفع لواء القداسة عن النص الرباني المعجز، من خلال تفسيره وإعطائه تأويلات غربية وبعيدة في بعض الأحيان عن المعاني الواردة فيه.

إن اللسانيات بما هي علم دراسة اللغة في كينونتها، وإن لم تحظ إلى حد الآن بدراسة للقرآن الكريم تكون شافية ومرجعا مهما، تظل أقرب إلى دراسة متن النص القرآني؛ وذلك لطبيعتها الوصفية التحليلية التي لا تمس القداسة الربانية في المتن أو المعاني أو التراكيب. ولا يعطي منهج الوصف والتحليل والتفسير الذي تتميز به اللسانيات معيارية ولا يقدم دراسة لما هو موجود إلا وفق الإمكانيات التي تُتِيحُها الممارسة اللغوية.

لقد تميزت اللغة العربية، وخاصة في الدراسات النحوية التركيبية، بنوع من المعيارية؛ وهي بهذا تكون أقسى من غيرها على النص القرآني في الضبط التركيبي. يقول تمام حسان: “والمعيارية إذ تصل إلى القاعدة تقف عندها وتلزمها وتبطل بها كل بحث لاحق لها يؤدي إلى التعديل أو التحويل؛ فالقاعدة لدى المعيارية غاية في نفسها وقانون ذو سلطة توجب وتجيز وتمنع، والناس أمام هذه السلطة رعايا يطيعون”. (حسان، تمام، (2007م) اجتهادات لغوية، عالم الكتب، ط1، ص: 13-14). إن أي علم للغة العربية كيفما كان، عربيا أو أجنبيا، يجعل من المعيارية خاصية له لا يصلح أن يكون منهج تحليل وبحث في القرآن الكريم، نظرا للخصوصية الفريدة التي يتميز بها في متنه ولفظه وتركيبه.

النص القرآني وقضايا الترجمة

الترجمة من منظور لساني علم يعمل على نقل النصوص بكل تجلياتها اللغوية وغير اللغوية، من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف في محاولة لإيجاد مكافئات، وفرضت الترجمة وضعها العلمي على جميع العلوم في مختلف المجالات، إنها تلك الحاجة التي نستطيع من خلالها تبليغ أفكارنا ومعتقداتنا ودياناتنا إلى الشعوب الأخرى التي تختلف عن منطقنا اللغوي.

لقد أثبتت الظروف اللغوية في ظل التعدد اللغوي والثقافي الحاجة إلى إيجاد المقابلات اللغوية بين لغات العالم، على الرغم من التباعد الحاصل في التعبيرات اللغوية بين الأمم والحضارات، يقول ياكوبسون: “إن لفظ “جبن” لا يمكن أن يطابق بصورة تامة مقابله الروسي، وهو “syr”، ذلك أن الجبن الأبيض جبن، غير أنه ليس “syr” يقول الروسي: “prinesi syru I tvorogu «هاتوا الجبن وكذا الجبن الأبيض»، ففي اللغة الروسية اليومية لا تسمى المادة الغذائية الناتجة عن تختر الحليب “syr” إلا إذ استعمل في ذلك خمير خاص”. (ياكوبسون، رومان (1959م) المظاهر اللغوية للترجمة، ترجمة: عبد المجيد جحفة، مقال ضمن كتاب دراسات في اللسانيات العامة، ص: 78-86).

وحسب ياكوبسون يظهر الفرق بين اللغات والتعدد الحاصل في المعاني والاختلاف في المحيط الاجتماعي والبيئي وتظهر حنكة المترجم في قدرته على إيجاد المكافئ إما بالإضافة أو الاقتراض أو الحذف… والأمثلة على المفردات في هذا الطرح كثيرة.

لقد أسهمت الترجمة في تطور الحضارات وازدهارها ونموها فكريا وعلمياُ، وفي نشر ثقافة الآخر، هذا ما حمل المُشرِّع إلى جعل ترجمة القرآن الكريم مجالا مفتوحا لكل الإسهامات الترجمية؛ لكن وفق شروط ومعايير ثابتة لا تمس بقداسة هذا النص الفريد في لغته. واقتحم المستشرقون ترجمة القرآن الكريم منذ زمن بعيد تحدوهم في ذلك رغبات وأهداف منها الصريحة ومنها الباطنية. ومن ثم، وجدنا العديد من المستشرقين يخفون ما لا يبدون من السموم والتحريفات الترجمية.

وقد عمل على كشف هذا التدليس الكثير من الباحثين العرب؛ من أبرزهم زينب عبد العزيز، الأستاذة الباحثة في الحضارة، في مقالات وكتب تضع من خلالها ترجمة جاك بيرك المستشرق الفرنسي في المحك من خلال كتاب لها بعنوان: “ترجمة القرآن إلى أين؟ وجهان لجاك بيرك”، تبين من خلاله بعض الأخطاء التي ارتكبها بيرك ليس ضعفا منه في فهم اللغتين ولكن رغبة في التضليل وخدمة الهدف من الترجمة والذي وإن كان ظاهره كما قلنا إبلاغ القرآن إلا أنه يبعد باطنا. في هذا الصدد، يقول طه عبد الرحمن: “ولا يقال: إن هدف المترجم هو أن يوفي بمقاصد كلام المؤلف؛ لأن هذا الهدف مبتذل، على فرض أن المترجم لا يخطئ هذه المقاصد. أما الهدف المخصوص الذي يجدر بالمترجم أن يتوخاه من ترجمته، فينبغي أن يضاهي الهدف الذي يتوخاه المؤلف من تأليفه ويناظره”. (طه، عبد الرحمان(2006م)، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط1، ص:161). لقد كان طه صريحا في هذا القول، إذ إن الترجمة كيفما كانت لن توفي الأصل، وتبقى نوايا المترجم فوق كل شيء أثناء الترجمة.

وقد أحصت الباحثة سالفة الذكر العديد من الأخطاء المتعمدة من لدن بيرك، تقول: “مثل سورة الإسراء فلم يكتف بترجمة معناها الذي حرفه إلى «Le Trajet Nocturne»أي المسيرة الليلية وإنما أضاف بعده عنوانا آخر هو أبناء إسرائيل وهو غير وارد في المصاحف المتداولة”. (عبد العزيز، زينب (1425هـ/2005م) ترجمة القرآن إلى أين؟ وجهان لجاك بيرك. مكتبة وهبة، ط1، ص:21) إضافة إلى هذا فقد نجد المترجم للقرآن الكريم ذا الأهداف التدميرية الخفية يتهرب على استعمال ألفاظ مترجمة تكون واضحة الاستعمال في اللغتين. تقول الباحثة: “وكلنا نعلم أن كلمة ‘’النصر ’’معناها بالفرنسية ‘’Victoire’’ وبالإنجليزية ‘’Victory’’، إلا أن بيرك أصر على عدم استخدام هذا المعنى، فكلمة النصر التي ترد في القرآن إحدى عشرة مرة وتصل تصريفاتها اللغوية إلى قرابة المائة مرة، لم يترجمها مرة واحدة لمعناها الحقيقي، ففي سورة البقرة مثلا نرى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولُ الرّسُولُ وَالذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللّهِ ﴾ (البقرة، الآية: 21) ترجمها إلى: ‘’L’envoyé De Dieu Et Ses Compagnons Dans La Foi S’écrièrent: Quand Le Secours De Dieu ‘’ ومعنى ترجمته رسول الله ورفاقه في الإيمان صاحوا متى نجدة الله، ونرى قوله تعالى: “إن نصر الله قريب” ترجمه ‘’ le secours de dieu est toujours proche ’’، ومعناه: أن نجدة الله دائما قريبة”. (المرجع نفسه، ص: 21).

إذن، هذه بعض المحاولات التغليطية التي يسعى لأجلها المترجم، التي وجب التّنبُيهُ إليها من لدن كل الباحثين في الترجمة القرآنية؛ فالهدف هنا لم يعد إيجاد المكافئات أو المقابل ولكن الترجمة بنية التحريف والتضليل.

القضايا اللسانية في ترجمة القرآن الكريم

أثبتنا في المحور السالف على أن النص القرآني ذو طابع لغوي محض، يحمل في متنه كل المقومات التي تجعل منه نصا لغويا بامتياز: من قبيل الأساليب المستعملة أو من التراكيب النحوية والدلالية التي يحوي بداخله، وسعينا هنا سيكون لأجل الكشف عن بعض الإشكالات التي تطرحها اللسانيات على ترجمة القرآن الكريم.. بصيغة أخرى، كيف يمكن للمستويات اللسانية أن تحدد هفوات الترجمة وخطورتها على النص القرآني.

تلعب المستويات اللسانية على تنوعها دورا أساسيا في بناء اللغات الطبيعية ودراستها، حيث إنه لا يمكن الاستغناء بأي حال من الأحوال على ما تُرتب بِهِ أنظِمة اللغات الطبيعية النحوية والتركيبية، أو المعاني التي تنسج على أساسها هذه التراكيب، أي المستوى الدلالي الخاص بالعبارات والألفاظ إما بشكل منفرد أو على شاكلة التراكيب المنسجمة في جمل، إضافة إلى البعد التداولي والاستعمالي في النص القرآني الذي يكثر استعماله.. إذن، كيف يمكن للسانيات، بمستوياتها التحليلية والوصفية، أن تقوِّم عملية الترجمة القرآنية، ونحن هنا لن نتطرق إلى المستويات الستة بل على الأهم منها والأكثر عملا على العملية الترجمية.

على المستوى التركيبي

للقرآن الكريم تركيب يفرُقُ عن باقي التراكيب النصية الأخرى. لذلك، وجب على من يفكر في التعامل معه أن يحذر الحذر الشديد حتى لا يُقَولَ النص ما لم يقُل، من خلال المحافظة على الرتب وتنوعها بين لغات الترجمة، مع الحفاظ على الدلالة في التركيب، “إلا أن التركيب القرآني في حد ذاته ليس تركيبا عاديا بل يحوي خصائص ومميزات خاصة جدا… وهذا من شأنه أن يدعونا إلى الحذر الشديد عند ترجمة معاني القرآن الكريم ويكرس من خصوصيته اللسانية بعامة”. (البايبي، أحمد(2014م) قضايا لسانية في ترجمات معاني القرآن الكريم، المجلة المغربية لدراسات الترجمة، العدد 2و3، ص: 220).

وسننطلق من وصف بعض هذه التراكيب، وكيف لعملية الترجمة أن تستفيد من الجانب التركيبي والمترجم كذلك في الكلام العزيز.

ـ ترجمة التقديم والتأخير(التبئير) نماذج من الترجمات الفرنسية

تعد ظاهرة التقديم والتأخير من الظواهر اللغوية (التركيبية) التي تتميز بها اللغة العربية عامة والعربية القرآنية خاصة. ويتم استعمال هذا الأسلوب في مواضع كثيرة في القرآن الكريم لأغراض وأهداف تتجلى في العناية أو الاهتمام التخصيص وغيرها. وتطرح ترجمة هذا الأسلوب العديد من الإشكالات الترجمية في اللغة الهدف التي يختلف نسقها اللغوي عن العربية بشكل كبير، خصوصا إذا كنا نتحدث عن الفرنسية أو الإنجليزية.

يقول تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الحَمدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرضِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ (الجاثية، الآية: 36.) يقول الفتح الرازي: أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السماوات والأرض، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين”. (تفسير الفتح الرازي، من موقع http://www.al-eman.com) ففي هذه الآية: تم تقديم مقولة تركيبية (الخبر) (لله) على المقولة التركيبية (المبتدأ) (الحمد).. لنرى كيف تعاملت الترجمات الفرنسية مع هذه الآية:

« Louange à Allah, Seigneur des cieux et Seigneur de la terre : Seigneur de l’univers » (Hamidullah, Mohammed, Le Saint Coran, p: 365)

« Désirance d’Allah, le Rabb des ciels, le Rabb de la terre, le Rabb des univers » (Chouraqui, André, LE CORAN – L’Appel, p : 742-743)

يلاحظ، من خلال الترجمات، أنها لم تستوعب مسألة التقديم والتأخير. وقد جاءت معظم الترجمات التي قدمت لهذه الآية بإرجاع الجملة إلى بنيتها السطحية الأولى، وغاب بهذا الغرض المعبر عنه في الآية الكريمة وهو تخصيص الله تعالى بالخلق، وهذا ما يُوجب البحث عن مكافئات أكثر تعبيرا على مراد الله تعالى، سواء من حيث تكييف المعنى أو من خلال البحث الدقيق عن المعادل.

في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَماء﴾ (فاطر، الآية 28)، أي أن العلماء بما وصلوا إليه من درجات في العلم أحق بخشية الله لأنهم مهما وصلوا من العلم لن يجابهوا قدرة الله تعالى. لقد حدث في الجانب التركيبي من هذه الآية أن حصل تقديم وتأخير واضح من جانب الدلالة والمعنى والتركيب أيضا، “في هذه الآية القرآنية خضع تبادل للمواقع بين المفعول (اسم الجلالة الله) والفاعل (العلماء) لعملية تركيبية تتمثل في التقديم والتأخير”. (الغريسي، محمد(2014) ترجمة النص القرآني مشاكل في المعجم والتركيب والدلالة، المجلة المغربية لدراسات والترجمة، العدد 2و3، ص: 231). وترجمت هذه الآية إلى الفرنسية بصيغ مختلفة.

« Parmi Ses serviteurs, seuls les savants craignent Allah. Allah est, certes, Puissant et Pardonneur » (Hamidullah، Mohammed, Le Saint Coran, p: 315)

« Parmi les serviteurs de dieu, les savants sont seuls à le redouter, dieu est puissant et il est celui qui Pardonneur. »( D, Masson, le coran, p : 537)

من خلال هذه يظهر أن قول حميد الله أقرب شيئا ما إلى معنى قوله تعالى؛ لكنه بعيد عن النسق القرآني وعن هذه الظاهرة اللغوية. وكما يظهر، فإن الله تعالى قد قدم نفسه على العلماء؛ لكن الترجمات على عكس ذلك، لأن الفرنسية لم تستوعب النسق القرآني، وماسون كانت بعيدة شيئا ما.
ظاهرة الحذف في القرآن وترجمتها نماذج من الفرنسية

الحذف من الظواهر اللغوية التي تشترك فيها جل اللغات الإنسانية، إلا أن العربية أعطت هذا الباب أهمية كبيرة لما يلعبه من دور في التخفيف على المتلقي والناطق في العملية التواصلية، يقول الجرجاني: “هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذ لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن”. (الجرجاني، الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمان، دلائل الإعجاز، تعليق محمد محمود شاكر، ج1، ص: 146) ويُؤتى بهذه الظاهرة لأغراض من بينها التخفيف الإيجاز التعظيم…وغيرها، ولما تنماز به هذه الظاهرة في العربية القرآنية، فهي تطرح عددا من الإشكالات في الترجمة إلى الفرنسية. يقول تعالى: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأوِيلِهِ فَأرسِلُونِ 45 يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ (يوسف الآية، 45-46) ففي ظاهر الآية هناك حذف لجملة تقديرها (فأرسلوه وذهب إليه وقال)، وهنا تتمة الآية. وتترجم إلى:

« Je vous exposerai leur interprétation : envoyez l’affaire ! » « Yûsuf, ohé le juste, éclaire-nous sur les sept vaches grasses ,( Chouraqui, André, LE CORAN – L’Appel, p : 322)

“Je vous en donnerai l’interprétation. Envoyez-moi donc” “ô toi, Joseph, le véridique »( Hamidullah, Mohammed, Le Saint Coran, p : 167-168)

يظهر من خلال الترجمتين أن حميد الله كان أكثر حيادية في التعامل مع الظاهرة اللغوية؛ لذلك، وجدناه يقدر المحذوف بين عارضتين في أثناء الترجمة، فيما معناه (أنا أعرف هذا التأويل أو التفسير فأرسلوني إلى)، على غرار المعنى الذي قدمه شوراكي الذي عبر عن المحذوف بعزله بنقطتي تفسير وعلامة تعجب من قول الرجل: (وقال أرسلني إلى مهمة متعجبا). إذن، ترجمة حميد الله كانت أقرب إلى المعنى القرآني، وإن لم تكن بذلك القدر من التعبير.

وعلى الجملة، تمكن اللسانيات، بمختلف مستوياتها الستة، المترجم أو الباحث في ترجمة معاني القرآن الكريم من الوقوف على العديد من المشاكل والأخطاء. كما تساعد المترجم أيضا، بفضل ترسانتها المعرفية، على وجود المعادلات والمكافئات الديناميكية في اللغة الهدف. هذا بفضل علم الدلالة الذي يفتح العديد من المخارج الترجمية لاهتمامه بنظرية المعنى التي تقوم عليها ترجمات القرآن. ولقد اكتفينا، من خلال هذه الدراسة، إعطاء نماذج تمثيلية مختلفة لأهم المستويات اللسانية رغبة في التوضيح لا الحصر.

The post ترجمة معاني القرآن الكريم في ضوء اللسانيات الحديثة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/LBGUo7h

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire