تقديم:
“فخرج رجل مبارزٌ من جيوش الفلسطينيين، اسمه جُليات، من جِت؛ طوله ستةُ أذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس؛ وكان لا بسا درعا حَرشفيا، ووزن الدرع خمسة ُآلاف شاقل نحاس، وجُرموقا نحاسٍ على رجليه، ومِزراق نحاس بين كتفيه، وقناة رمحه كنَولِ النساجين، وسِنان رمحه ستمائة شاقل حديد؛ وحامل الترس كان يمشي قدامه.
فوقف ونادى صفوفَ إسرائيل وقال لهم: “لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب؟ أمَا أنا الفلسطيني، وأنتم عبيد شاؤول؟ اختاروا لأنفسكم رجلا ولْينزل الي.
فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدا، وإن قدرتُ أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدا وتخدموننا”.
تستعيد هذه الحكاية التوراتية بعضَ ملامحها اليوم؛ فمن جهة ينتصب “الجليات” الروسي “بوتين” مدججا:
أولا بالتاريخ:
إذ بسطه مفصلا في مقال له مطول -5000 كلمة- منشور بموقع الكرملين في شهر يوليوز 2021.
مقال يغطي أزيد من ألف سنة، من تاريخ الشعوب السلافية -خاصة الشرقية: الروس، الأوكرانيين والبيلاروسيين، يراها قد تمخضت -سلما وحربا- لتلد الجمهوريات السوفياتية السابقة، ثم وريثها الاتحاد الروسي.
لكن الأهم فيه كونه يجُبُّ أوكرانيا جَبا، وينفي كلية أن يكون لها شعب خالص، بهوية عرقية وسياسية، خارج القومية السلافية الروسية.
ورغم النشر الواسع لهذا المقال -وهو يذكِّر، إلى حد ما، بكتاب “كفاحي” لأدولف هتلر- فإن الازدراء الغربي، لِما يكاد يعتبره مجرد سقط متاع من الاتحاد السوفياتي المفكك، لم ير فيه ما يستدعي القلق، وطلبَ التوضيح، لانطلاق نقاش في العمق؛ عمق الطموح الخطير لرجل دولة بخلفية مخابراتية سوفياتية، لم تشتغل، واقعا، ولن تشتغل، طموحا، إلا في دهاليز الظلام والخفاء.
حتى الجنود الروس وصلتهم نسخهم الشخصية من المقال؛ مما يدل على أن الأجراس في روسيا لم تعد تقرع لله فقط، وأن يوم القيامة/القومة حالٌّ قريبا.
ومدجج ثانيا:
بالمنطق الأمني الاستراتيجي.
وهو نفس المنطق الذي جعل الولايات المتحدة، تعترض على نشر الصواريخ السوفياتية بكوبا سنة 1962؛ رغم أنها هي السباقة إلى نشر صواريخ “ثور” و”جيبتر” في كل من بريطانيا وإيطاليا وتركيا سنة 1961. وصل العالم وقتها إلى شفير الحرب النووية.
في دجنبر2021 أبان “بوتين ” للاتحاد الأوروبي، ومن خلاله للولايات المتحدة، عن كونه يرغب بكل حزم، في تسييج كل حدائق الجمهوريات السوفياتية السابقة، بما فيها دول أوروبا الشرقية.
وقوفا في وجه توسع الاتحاد الأوروبي شمال وشرق ألمانيا.
ووقوفا في وجه تمدد الحلف الأطلسي.
مرة أخرى يُستضعف الطالب، ويستكثر عليه المطلوب؛ رغم كونه لم يدخر جهدا في إظهار ترسانة حربية متطورة جدا، في جميع المناسبات الوطنية. “ترسانة الصدمة” كما تسميها وكالة “سبوتنيك”. (6000 قطعة سلاح نووي، بري، بحري وجوي، 1600 منها كاملة الجهوزية، في أي لحظة؛ في مقابل: 5600 للولايات المتحدة، و300 لفرنسا..).
إغراق السمكة:
تحدث بوتين أخيرا بسخرية عن محاوريه، رسل السلم المزعومين، خصوصا الرئيس الفرنسي “ماكرون”؛ فهو يراهم يغرقون السمكة، ويُنسون فيها بالاستدراج إلى أحاديث هامشية لا تشغل باله إطلاقا. يتخذون لهم، على حدوده، مقاعد للسمع، ومنصات للقصف، ومدمرات لتسوية القائم بالمنبسط؛ ثم يعرضون عليه ألا يرى، حتى وهو بعيني زرقاء اليمامة؛ وألا يعض وهو بفك تمساح.
إن من تملَّك صواريخ استراتيجية خارقة -القيامة، الشيطان، الاسكندر..- لم يعد يعنيه في شيء حديث تفكيك الخردة القديمة المتجاوزة، وضمانات كاذبة يراها لا تساوي قيمة ورقها.
ومن يطالب بتقهقر الاتحاد الأوروبي -بزمن لا يقل عن ثلاثين سنة- إلى خرائطه قبل سقوط جدار برلين: 1989 لم تعد تعنيه الدعوة إلى الحوار مع أوكرانيا التي يراها لا حروف لها خارج الأبجدية الروسية؛ أحبت أم كرهت.
يراها سلافية روسية منذ ألف سنة؛ ولا خروج لها من العصمة السوفياتية، ولو المنهارة والمفككة.
يردد بوتين، دوما، لمقربيه ما معناه: “من لا يحن للاتحاد السوفياتي ناقص الوطنية؛ ومن يريد استعادته، كما كان، أحمق”.
ربما يراه أحمق لأنه يريد استعادته فقط؛ والحال أن في الوسع بناء ما سيكون أوسع وأقوى منه.
ومدجَّجٌ ثالثةَ بالردع النووي:
نعم لم يتردد منذ الحرب العالمية الثانية؛ ومنذ أزمة خليج الخنازير، حديثُ الردع النووي المنتصب للردع فعلا؛ وليشرب العالم المصدوم بحاره.
بعد أن هدد بوتين مهاجميه المحتملين -ليس الأوكرانيين- بما لا قِبل لهم به من سلاح؛ غداة الاكتساح ؛عاد يوم الأحد 27 فبراير2022، ليصرح بأنه أصدر أوامره لوزيره في الدفاع، باستنفار كل أذرع الدمار الشامل النووية.
دولة نووية، بعضوية دائمة في مجلس الأمن، وبحق الفيتو؛ وشريك في الحوار النووي، الغربي الإيراني، تهدد بالسلاح النووي، في مستهل القرن الواحد والعشرين. (إزاء هذا التهديد الخطير، تردد بعض الجهات أن الولايات المتحدة هي السباقة إلى وضع ترسانتها النووية في حالة استنفار).
كل أوزان “جليات” من النحاس، وكل ترسانته من المضاء، كما تذكر التوراة، حاضرة؛ لكن في وجه من؟
هل الشعب الأوكراني الذي يتقمص هنا دور داوود، الراعي المستضعف؟
أم إله داوود؟
هذا الحلف الأطلسي الذي لا يخفي ابتهاجه وسخريته بتمدده شرقا ودوسه على كل هيبة الستار الحديدي السوفياتي.
الحلف الذي يراه بعض المحللين الاستراتيجيين، اليوم، ساذجا وهو يتوهم أن المادة الخامسة في ميثاقه، كافية لزرع الطمأنينة في أفئدة كل الراحلين
إليه من المعسكر الشرقي السابق؛ بما فيه الجمهوريات السوفياتية.
في انتظار التحاق أوكرانيا، ليكتمل الطوق: تطويق عنق “جليات” بسلاسله النحاسية.
فعلا كان داوود قد شرع في الرقص مع دوائر مقلاعه، القاذف للحجر المبارك الذي شج -في التوراة- جبين العملاق.
أي موقع لأوكرانيا الآن في كل هذا؟
على عكس ضعف داوود الجسدي في الحكاية التوراتية، ورثت أوكرانيا أغلب الترسانة النووية السوفياتية؛ لولا أن جليات الروسي استكثر عليها هذا الإرث -ثالث ترسانة نووية في العالم- بل رأى فيه كل التهديد للاتحاد الروسي؛ خصوصا والغرب المنتصر، أيديولوجيا، على الأبواب.
كانت معاهدة لشبونة سنة 1994، بين واشنطن وموسكو، القاضية بتخفيض الترسانة النووية، بمثابة الضربة النووية لهذه الترسانة؛ مقابل تعهد الولايات المتحدة وبريطانيا بحماية أوكرانيا من أي اعتداء روسي.
“لو كانت أوكرانيا لا تزال تحتفظ بأسلحتها النووية، لربما لم تكن لتفقد؛ لقد تخلت عن ترسانتها الاستراتيجية مقابل ورقة بلا قيمة؛ وحصلت في الأخير على غزو من قبل جارتها النووية القوية. ” (والتر راسل: خبير العلاقات الدولية الأمريكي).
حق للشعب الأوكراني البطل، اليوم، أن يشعر بأقصى درجات الخذلان؛ فكل الدعم السياسي والاقتصادي والميداني، الآن، لا يجبر كرامة البلد التي أهدرها الجار العملاق، دون أدنى اعتبار لضمانات الدفاع الغربية الكاذبة.
وكل الانزال العسكري الآن في خرائط النيتو بأوروبا الشرقية؛ لا تعني إلا شيئا واحدا: “خذ أوكرانيا وكُفَّ”.
قيل مثل هذا لهتلر، في خرائط أخرى وزمن آخر، ولم يكف.
ولم يشهد التاريخ ديكتاتوريا مستبدا أقنعه مجرد الكلام المتوسل، بالتخلي عما عض عليه، حربا بالنواجذ.
بل بفك تمساح بعيون دامعة.
إن الساحة الأوكرانية اليوم، بالنسبة لبوتين، مجرد ركح مسرحي يتدرب فيه، ويختبر مدى هشاشة حلف أطلسي، فعلت به الأسطورة كل أفعالها؛ وما هو في الحقيقة سوى فيل بلا نابين، لم يعد له من سلاح سوى ثقله الرخو.
يرسم الشعب الأوكراني اليوم، وحيدا تقريبا، لوحات بطولة قل نظيرها.
وغدا سيذكر التاريخ أن بادية مأساة العالم الثالثة -بشقيه الحر والمقموع- كانت من هنا.
The post أوكرانيا.. داوود وجُلياتْ appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/dsUGbOj
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire