بوصوف يسائل اليمين المتطرف على هامش انتخابات الرئاسة في فرنسا

شاهدت فيلم “J’accuse” أو “الضابط والجاسوس” لمخرجه رومان بولانسكي، وقرأت أنه فاز بجوائز مهمة في مهرجانات سينمائية عالمية. وبعيدا عن جوانب تقنيات العمل السينمائي التي لا أفقه فيها، فإنني أسجل إعجابي ببراعة الممثلين والموسيقى والملابس، كما أسجل إعجابي بتناول “قضية دريفوس Dreyfus” 1894-1906..التي هزت أركان الجمهورية الفرنسية الثالثة ولعب فيها المقال الشهير “أنا أتهم..” لإيميل زولا سنة 1898 دورا محوريا لـدى الرأي العام الفرنسي وإعادة فتح التحقيق في قضية الضابط الفرنسي “دريفوس” ذي الأصول اليهودية (من منطقة الألزاس)، مع اتهامه بالخيانة العظمى بالتخابر لصالح الجيش البروسي (الألماني)… وانقسام المجتمع الفرنسي بين “أنصار دريفوس”، وأغلبهم من المثقفين والجمهوريين واليسار الراديكالي والاشتراكيين (Bloc des gauches ) من جهة، و”معارضي دريفوس”، وأغلبهم من أنصار الملكية ورابطة الوطنيين والكاثوليك المحافظين والضباط ومعادو السامية…من جهة ثانية.

هذا مع عدم إغفال توقيت إنتاج الفيلم، أي سنة 2019، الذي أعاد قراءة أحداث “قضية دريفوس” وتداعياتها العميقة على المستوى الفكري والسياسي والعسكري والعقائدي والحقوقي…في وقت يكرس تأجيج الصراع حول الأفكار والخلفيات الأيديولوجية نفسها، لكن بوتيرة أقوى وأسرع…وفي وقت مازال يفضل اليمين المتطرف الفرنسي العزف على الأوتار نفسها، أي العرق والدين ورفض الفردانية والتعددية..وإقصاء الآخـر لأسباب عـرقية وعنصرية…

ولأن المناسبة شرط فإننا ندعو إلى مشاركة البحث عن حقيقة اليمين المتطرف، سواء في فرنسا أو في أوروبا..خاصة وأننا على مشارف رئاسيات فرنسية في أبريل 2022، مع ضرورة الاستئناس بأبحاث سابقة، وعلى رأسها كتاب المؤرخ الفرنسي Rene Remond “اليمين في فرنسا من 1815 إلى أيامنا الحالية”، الذي نشر سنة 1954، إذ قسم فيه اليمين في فرنسا إلى ثلاث فئات:Droites légitimiste ; Orleantiste ; Bonapartiste.

فالبحث عن الحقيقة هو الذي دفع “إيميل زولا” إلى صرخته الشهيرة “أنا أتهم” في قضية دريفوس، وحُكِم عليه بالسجن لمدة سنة واحدة بتهمة “التشهير”. ومن أجل الحقيقة تـم إبعاد ضابط المخابرات العسكرية “جورج بيكار” بعد كشفه براءة دريفوس إلى شمال إفريقيا…لكن الأول حُمِل على الأكتاف بعد براءة دريفوس، في حين تمت ترقيت الثاني إلى رتبة جنرال وأصبح وزير الدفاع الفرنسي..

لكن لا بأس من التذكير بأن اليمين المتطرف الفرنسي كان حاضرا منذ الثورة الفرنسية سنة 1789 وانقسام الجمعية العمومية بين أنصار الثورة وأنصار الملكية أو معارضي الثورة؛ وكل ما حملتـه تلك الثورة من مشاريع أفكار في كل المجالات، وما عرفته من صراع فكري / نخبوي بين مفكري وفلاسفة المرحلة، سواء مع أو ضد الثورة، هو ما جعلنا أمام فرنسا بوجهين أو اتجاهين؛ يميني بتصور محافظ وضد التطور ومع العصرنة، واتجاه لبرالي مدافع عن الحقوق المدنية ومفتوح على الشعب…مرورا بتراكمات مرحلة نابوليون الثالث ودستور 1875، وقضية دريفوس، والتعاون مع حكومة فيشي في عهد ألمانيا النازية، ثم سنوات الخمسينيات من القرن الماضي وما عرفته من ركوب اليمين المتطرف على قوانين الضرائب، وخاصة التجار والفلاحين، مع Pierre Poujade أو ما عُـرف بـ”البوجاديزم”؛ كما لعبوا ورقة معارضة الجمهورية الفرنسية الرابعة ومعارضة معاهدة روما والسياسات الغربية…

ومع ميلاد الجمهورية الخامسة وعودة الجنرال ديغول وإعلان دستور 1958 سيختفي حزب Poujade وسينتقل الضابط السابق في الجيش الفرنسي “جون ماري لوبان” إلى اليمين الراديكالي بعد نجاحه في انتخابات سنة 1956 باسم حزب بوجاد…

وخلال كل هذه المراحل بقيت الحركات السياسية لليمين المتطرف وفية لمبادئها القائمة على نوستالجيا التاريخ والاقتيات من الإنتاجات الفكرية ذات النزعة العنصرية والانتصار لعرق دون آخـر؛ مع اعتمادها بمناسبة كل استحقاق سياسي شعارات “شعبوية”، وبأنها حزب “الفرنسيين” وليست حزب “السياسيين”، وهي في هذا تستغل أخطاء سياسية للخصوم وتسعى إلى اصطياد “تصويت عقابي” لصالحها عند كل مناسبة انتخابية…

وإعلان “جون ماري لوبان” عن تأسيس حزب الجبهة الوطنية في فبراير 1972 لم يكن إلا تجسيدا جديدا لحركات سياسية سابقة لليمين المتطرف، كـ Ordre Nouveau سنة 1969 برئاسة Galvaire، الذي تم حله سنة 1973، وخلق حزب “القوات الجديدة” سنة 1974..

لكن أغلب الأدبيات السياسية اعتبرت أن حزب الجبهة الوطنية F.N هو الوريث السياسي، لكن ليس الوحيد، لكل تلك التيارات الفكرية والحركات السياسية لليمين المتطرف…ويرجع الفضل لرئيسه “ماري لوبان”، ضابط الجيش الفرنسي المشارك في حروب لاندوشين والعدوان الثلاثي والحرب الجزائرية، والمتهم بتعذيب المعتقلين بالجزائر الشقيقة. وهو ما جعل من التحريض على الإسلام والمسلمين والهجرة الملفات الأكثر أهمية في أجندة “ماري لوبان” على رأس حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف..

وقد سارت على نهج لوبان وريثـته السياسية ابنته “مارين لوبان”، وكل حركات اليمين المتطرف، كحركة “جيل الهوية” Génération Identetaire التي تأسست سنة 2012، والتي تم حلها بقرار من وزير الداخلية “جيرار دارمانان” في مارس 2021، وأيــده قرار مجلس الدولة الفرنسي في شهر ماي من السنة نفسها، مُـعللا ذلك بأن الحركة تشجع على الكراهية والعنف ضد المسلمين، وتهـدد الأمن والنظام العام…

كما شهدت سنة 2003 حركة سياسية تابعة لليمين المتطرف تحت اسم Bloc Identetaire..

إننا نعتقد أن كراهية اليمين المتطرف لكل ما هو أجنبي (مهاجر)، ولكل ما هو خارج عن الكاثوليكية (اليهود أولا ثم المسلمون ثانيا…)، يــدخل في خانة تصفية الحسابات السياسية بين اليمين المتطرف كفكــر وكممارسة سياسية من جهة، والمهاجرين وخاصة المسلمين منهم من جهة أخرى… وانتقاما من مشاركة شعوب المستعمرات الفرنسية في الدول العربية المسلمة والإفريقية في حملات عسكرية لـتحرير أوروبا من الفكر والاضطهاد النازي والفاشي أثناء الحرب العالمية الثانية…

لأنه في وقت انقسم اليمين المتطرف الفرنسي بين مـؤيـد لقرارات حكومة فيشي المعادية للسامية من جهة، ومتعاون مع المستعمر الألماني من جهة ثانية… فقد تخندقت شعوب المستعمرات الفرنسية (الإفريقية والعربية المسلمة …) في صف الحرية إلى جانب جيوش الحلفاء سواء في مونتي كاسينو أو صقلية أو مارسيليا أو بلجيكا أو جبال الآلب وغيرها…

وفي وقت كان الضابط “جون ماري لوبان ” يُحارب من أجل إخضاع المستعمرات في لاندوشين والجزائر الشقيقة والعدوان الثلاثي، فقد تجرع هو ومن معه من المنتسبين للفكر اليميني العنصري الهزائم والانتكاسات السياسية والمتابعات القضائية في دعاوى تعذيب المعتقلين والسجناء…

كما نعتقد أن حرب البترول لسنة 1973 زادت من حقد اليمين المتطرف على الشعوب العربية والمسلمة، لأنها مَـستْـه في عقـدة “الـتفـوق” كعقيدة له، مقابل انفتاح الحكومات الأوروبية على الدين الإسلامي والسماح بفضاءات جديدة للعبادة لفائدة المسلمين بأوروبا.

لذلك نميل إلي الاعتقاد بأن “جون ماري لوبان” وكل ورثة اليمين المتطرف الفرنسي، وعلى رأسهم مارين لوبان وأريك زمور… قــد رهنوا سبب وجودهم السياسي داخل أسوار حزب الجبهة الوطنية (سياسيين ومثقفين..) بـالدفع بشعارات كراهية المسلمين واليهود، وبرفع شعارات السيادة الوطنية والتاريخ المجيد…ضد الأجانب والتضييق عليهم وتـقـليـم حقوقهم المكتسبة من شرعية مواثيق الحقوق المدنية الكونية، ومن شرعية دفاع أجدادهم عن حرية شعوب أوروبا وتخليصها من الأنظمة النازية والفاشية…

The post بوصوف يسائل اليمين المتطرف على هامش انتخابات الرئاسة في فرنسا appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/8VRqOYQSe

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire