منذ منتصف القرن العشرين بدأ الحديث عن “النّهايات” و”المابعديات” بشكل كبير، فأصبحت كتابات النّقاد والمفكرين والفلاسفة تتناول موضوعات من قبيل موت المؤلف، وموت الإنسان، ونهاية السّرديات الكبرى، وما بعد الحداثة، وما بعد الأيديولوجيا وما بعد الإنسان.. إلخ.
انطلقت معظم هذه الكتابات من أزمات فكرية، ساهمت فيها الحروب ونتائجها المأساويّة كالحرب العالميّة الثانيّة، ثم سقوط جدار برلين.. إلخ، بالإضافة إلى تغير رؤية الإنسان لوجوده، وبحثه المتواصل عن ماهيته، وموقعه في هذا الكون.
ولعلّ الوباء الّذي عصف بنا منذ سنة ألفين وعشرين، سيزيد من تغذية خطابات المابعديات أو النهايات، لكن هذه المرة في مجال القانون، وفي مفاهيم من قبيل الدّولة والحقّ وسيادة القانون. فلو أمعنا النّظر في تعطيل بعض الدول العمل بالقوانين بسبب الوباء، لخطر في ذهننا موضوع “نهاية القانون”، أو لفكرنا في نظريّة عن “ما بعد القانون”.
والمتأمّل لقرار وزير العدل والسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائيّة والسيد رئيس النيابة العامة، في ما عرف بالدورية الثلاثيّة، التي تلزم عموم الموظفين ومساعدي القضاء، فضلا عن المتقاضين، بالإدلاء بجواز التلقيح قبل الدخول إلى المحاكم، قد يخطر في ذهنه السّؤال التّالي: هل نعيش في مرحلة ما بعد الدّستور وما بعد القانون؟
إن الدّستور حسب فقهاء القانون أسمى القوانين، بحيث إن جميع القوانين ينبغي أن لا تخالف مقتضياته، بل إن تعطيل العمل بمقتضياته، يكون طبقا لما جاء في الدستور نفسه، بمعنى حالة الاستثناء الّتي تناولها الفصل 59.
بيد أن حالة الطوارئ الصحيّة ليست حالة استثناء؛ وبالتّالي فإن الحَكَم بين الدّولة ومواطنيها يظلّ هو الدّستور، الذي ينص على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمّة، وأن الجميع، أشخاص ذاتيون أو اعتباريون، بما فيهم السّلطات العموميّة، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له (الفصل 6).
إن الملاحظ أن مرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصّة بحالة الطوارئ الصحيّة وإجراءات الإعلان عنها، قد عَطَل العمل بالدستور بشكل غير مباشر، فقد نصّ في المادة الثالثة على أنّه على الرغم من جميع الأحكام التّشريعية والتّنظيميّة الجاري بها العمل، تقوم الحكومة، خلال فترة إعلان حالة الطوارئ، باتخاذ جميع التّدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيميّة وإداريّة، أو بواسطة مناشير وبلاغات.
والحقيقة أن الكثير من التّدابير التي اتخذتها الحكومة خلال فترة إعلان حالة الطوارئ الصحيّة كانت مخالفة للدستور، ولا شكّ أن أهمها هو قرار إلزاميّة الإدلاء بجواز التلقيح لولوج المحاكم، فهذا القرار يتنافى مع حقّ التقاضي المضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه الّتي يحميها القانون (الفصل 118 من الدستور)، فحق التقاضي لا يجب أن يستثنى منه المواطن غير الملقح، لا سيّما وأن التلقيح اختياري وليس إجباريا. ولا بد هنا أن نفتح قوسا ونقول إن للمحاكم خصوصيّة، ذلك أنه لا يمكن منع شاهد أو مصرح من الدخول ليشهد في قضية لأنه لا يملك جواز التّلقيح، كما أنه لا يمكن لمدين أن يُمنع من أداء دينه لأنه لا يتوفر على جواز، ولا يمكن لطالب إجراء وقتي مستعجل أن يمنع من رفع طلبه للقضاء للبت فيه لأنه لم يلقح، أو لحامل شكاية أن يطرح تظلمه ..إلخ. ولذلك يجب أن يُفهم احتجاج الدّفاع، على الصعيد الوطني، من هذه المنطلقات الحقوقيّة والدّستوريّة، أما اعتبار احتجاجهم ابتزازا للدولة فما هو إلا فهم قاصر، وكلام غير مسؤول. فمن شأن منع المواطنين من ولوج المحاكم أن يحدث ضررا أكبر من الوباء، ومعلومٌ أن القاعدة الفقهيّة تقول إن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما. وعلاوة على ذلك، فإن الإرهاصات الأولى لتجاوز القانون ظهرت مع إقرار المحاكمة عن بعد، التي أثرت على حقّ الدّفاع، وعلى ضمانات المحاكمة العادلة، فالقوانين لم تتطرق إلى إمكانية اعتماد المحاكمة عن بعد بالنسبة للمتهمين.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه تم المساس بمبدأ فصل السلط في هذه الدوريّة الموقعة بين السلطة التّنفيذيّة والسلطة القضائيّة. فالسلطة القضائية ينبغي أن تظلّ مستقلة ومحايدة، بل ومتعالية عن جميع السلط، حتى يتسنى الرجوع إليها في حالة وجود نزاعات حول قرارات إداريّة قد تتسم بالتجاوز.
صحيح أن الوباء خطير، ولكن الأخطر هو عدم احترام الدّستور، لأن عدم احترامه من شأنه أن يفتح بابا للعبث وللفوضى، وهذا ما أصبحنا واقعين فيه، ففرض جواز التلقيح، يخالف أيضا مرسوم حالة الطوارئ الصحيّة، الذي ينصّ على أن التّدابير المتخذة أثناء حالة الطوارئ لا تحول دون ضمان استمراريّة المرافق العموميّة الحيويّة وتأمين الخدمات التي تقدمها للمرتفقين.
هكذا يظهر لنا جليا أننا نعيش في مرحلة ما بعد الدّستور، بل وفي مرحلة ما بعد القوانين والمراسيم أيضا. وهذه المرحلة ظهرت بشكل بارز في الدورية الثلاثيّة التي جمعت وزارة العدل بالسلطة القضائيّة. وهي الدورية التي أفاضت الكأس، وكانت تلخيصا واضحا لتجاوز الدّستور، بل ولتجاوز مرسوم حالة الطوارئ الصحيّة أيضا.
ربّما هذه المرحلة التي أسميناها “مرحلة ما بعد الدّستور” عاشتها أغلب الدّول التي ضحت بالحريّة من أجل الأمان، ولا ريب أنّها مرحلة عابرة، فهذا ما نأمّله ونرجوه، وما تنبيه المحامين، من خلال وقفاتهم الاحتجاجيّة، إلا إشارة لضرورة العودة إلى الدّستور، وسن القوانين وفق ما جاء في هذا الأخير، حتى يترتب عنها آثار قانونيّة، يمكن لمن خالفها أن يعاقب، لأنه ساعتها لم يمتثل لإرادة الأمّة. أمّا ترك السّلطة التّنفيذية تنفرد باتخاذ القرارات التي تمس بالمبادئ الدستوريّة، فربّما كان مفهوما في المرحلة الأولى من ظهور الوباء، بسبب الارتباك، والقلق الذي أحدثه، أما اليوم، فلم يعد هذا الانفراد والمساس بالقانون مفهوما ولا مقبولا، لأنه من المفروض الآن أننا تجاوزنا حالة الارتباك وتعايشنا مع الوباء، وأصبح لِزامَا علينا أن نحدد اختياراتنا، وأن نفكر في أنه لا بديل عن سيادة القانون، ذلك أن سيادة القانون أسمى ما وصل إليه الفكر الإنساني، ومن شأن التخلي عن هذا المبدأ الكوني أن يوقعنا في ردة حقوقيّة، لأنه لا يمكن تجاوز القانون دون الوقوع في الفوضى وفي حالة الطبيعة.
لقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول إنه يجب أن تمحى كلمة اجتهاد من المحاكم في دولة لها دستور وتشريع، لأنه لا يمكن أن يكون الاجتهاد شيئا آخر غير القانون. ونحن على نفس المنوال نقول إنه يجب أن تلغى جميع القرارات التي تتجاوز الدّستور والقوانين، حتى وإن كان الهدف من هذه القرارات المصلحة العامّة، لأنه لا يمكن أن تكون المصلحة العامة شيئاً آخر غير احترام الدستور وسيادة القانون.
The post مرحلة ما بعد الدّستور! appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3ptkeVS
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire