"الجثة الملغزة" .. كوكاس ينبش أسباب غياب الحقيقة في قضية بن بركة

ينكأ عبد العزيز كوكاس، في الذكرى السادسة والستين لاختطاف و”اغتيال” المهدي بن بركة، جرحا مغربيا وإنسانيا كبيرا، بمحاولة اقتفاء أثر هذه الجريمة، التي مازالت كثير من البياضات الكبيرة تمنع استجلاء الحقيقة الكاملة بشأنها.

في الجزء الثالث من هذا المقال الطويل، يقف كاتبنا عند الأسئلة المؤرقة التي تحول دون استجلاء الحقيقة كاملة في قضية اختطاف واغتيال من عرف لزمن طويل في المغرب بـ”عريس الشهداء”.

روايات ناقصة وخيوط متشابكة

يذهب جاك دوروجي وفريديريك بلوكان في كتابهما: “لقد اغتالوا بن بركة” إلى أن روجي فراي الذي ذكر أنه لا يعرف أوفقير إلا من خلال إقامة قصيرة مع ابنه في المغرب كان قد قضى في شتنبر 1965 أسبوعا كاملا في ضيعة أوفقير بالمغرب، وأن العلاقة بينهما كانت جد حميمة. ألم يكن ذلك جزءا من الترتيبات العملية للاختطاف؟ أم الأمر مجرد مكر الصدف؟.

ومع تواتر البحث والتحقيق، ستؤدي اعترافات لوبيز، الذي سلم نفسه للشرطة الجنائية، بروجي سوشون إلى غرفة الجنايات، حيث سيشرع في الاستماع إليه – ومع الظهر سيعود الجنرال أوفقير من جنيف إلى مطار أورلي، حيث سيقابل وزير الداخلية الفرنسي خلال حفل استقبال نظم بوزارة الخارجية على شرف أربعة عمال أنهوا تداريب دراسية دامت ثلاثة أشهر في فرنسا؛ وأمام إحراج الصحفيين، سيصرح بأنه مر بباريس يوم 30 أكتوبر وذهب لرؤية أبنائه المقيمين بسويسرا، وعاد إلى باريس ليحضر نهاية التدريب الدراسي الذي يجتازه العمال المغاربة، كما أنه جاء من أجل تهييء الزيارة الملكية التي كانت مقررة في 11 يناير، وفوجئ باختطاف خصمه السياسي.

لقد كان العمل متقنا بدهاء من كل النواحي، عناصر التمويه، حفل السفارة والعمال المغاربة الذين أنهوا تداريبهم، وذلك لتقديم الذرائع وتبرير التنقلات بين باريس والرباط. ومساء اليوم نفسه سيحضر أوفقير حفل عشاء بفيلا سعيد، مقر إقامة السفير المغربي، وذلك برفقة الدليمي الذي عاد كذلك إلى باريس.

ومن خلال هذا الحفل سيتسلم باليس، أحد الفارين من العدالة، من يد الغالي الماحي، اليتيم الذي تبناه أوفقير، ما قدره 10 آلاف فرنك فرنسي، خصه بها وزير الداخلية المغربي مقابل وصل، وهو ما سيثير حيرة الماحي حسب تصريحه بعد اعتقاله… كان أوفقير ينوي العودة ليلا إلى المغرب، غير أنه لم يجد بعد الرحلة، فأقام ليلته بمنزل المستشار الاقتصادي للسفارة المغربية، فيما ذهب الماحي مع زوجته والكاتب الأول للسفارة إلى فندق لوري للقاء المجرمين باليس ولوني ودوباي، ليعود بعد ذلك إلى محل إقامة أوفقير عند المستشار الاقتصادي. وفي اليوم الموالي 4 نونبر سيقوم موريس غريمو، المدير العام للأمن الوطني (62/65)، الذي تولى في ما بعد ولاية الأمن بباريس خلفا لموريس بابون، بترحيل الجنرال أوفقير ومدير الأمن الدليمي إلى الدار البيضاء على متن طائرة تابعة للخطوط الفرنسية بدعوى وجود خطر اضطرابات في المغرب.

وعوض البحث عن الحقيقة، فإن مصالح فرنسا في المغرب ستغلب طابع العلاقات الدبلوماسية، وهو ما عكسه حوار بومبيدو، الوزير الأول الفرنسي، مع وزير الداخلية روجي فراي، وتلك الخيوط المتحركة بين باريس والرباط، إذ يوم 5 نونبر سيحل فيليب مالو، مدير الخارجية الفرنسي، بالرباط، ويتوجه صحبة سفير فرنسا روبير جيلي للقاء السلطات المغربية بفاس، بعد تصريحات لوبيز التي وجهت الاتهام إلى أوفقير. غير أن المغرب رفض تسليم المتهمين تبعا لتأويل الاتفاقية القضائية بين البلدين، وطلب إخبار باريس بأنه سيحيل الملف فورا على القضاء المغربي، فيما ظل الطلب الفرنسي واضحا: التخلي عن أوفقير تفاديا للإضرار بمصالح البلدين، وهو ما اعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية للمغرب، إذ حتى بعد صدور حكم محكمة لا سي في يونيو 1967 على أوفقير بالسجن المؤبد ظل هذا الأخير وزيرا للداخلية حتى غشت 1972.

يوم 11 نونبر 65 سيوضع لويس سوشون، المفتش الممتاز مدير مجموعة قمع تهريب المخدرات، ونائبه الضابط روجي فواتو، تحت الحراسة النظرية، وسيتكلف العميد موريس بوفيي ونائبه روجي بوابلون باستنطاقهما، وذلك بناء على المكالمات التي تمت ما بين 11 غشت و 2 أكتوبر، وما بين 14 أكتوبر و6 نونبر، من طرف إيلي تورجمان، وبينهما يوجد رقم سوشون وعلاقات لوبيز بالضابطين.

ومع استمرار الغموض حول اختطاف المهدي بن بركة ستصدر وكالة الأنباء الفرنسية (فرانس بريس) تصريحا لأحد مسؤولي وزارة الداخلية ينفي فيه تورط مصالح الأمن الفرنسية في القضية، غير أن وقائع اليوم الموالي ستكذب البلاغ بعد اعتراف سوشون وفواتو رسميا بتواطئهما في عملية الاختطاف.

أما في المغرب، ومع ضغط الحملة الإعلامية، فقد اتخذت الأزمة في العلاقات المغربية الفرنسية أبعادا خطيرة. كان أوفقير قد خرج من صمته وصرح لمراسل فرانس بريس بأن “اتهامات العدالة الفرنسية مختلقة”؛ بل إن وزير الفلاحة السيد المحجوبي أحرضان أفصح ببلاغة نادرة قائلا: “إن الجنرال أوفقير لا يمكن من تلقاء ذاته أن يقوم بعمل يمكن لعواقبه أن تحرج جلالة الملك (…) إن المهدي بن بركة بالنسبة لي شخص شرير ويستحق الاحتقار ومصيره في الحقيقة لا يهمني، لكن ما أرفض التسليم به هو أن تنجح قضية شخص من أمثاله في زرع الخلاف بين بلدينا”.

وفي 6 نونبر 65 أصدرت وزارة الإعلام بلاغا تشجب فيه “مرتكبي الاختطاف”، وفي الآن نفسه تهاجم “المنظمات والمنابر المغرضة التي اعتادت الصيد في الماء العكر”. ويوم 10 من نونبر، تصدر الحكومة المغربية بيانا يتهم الإعلام الفرنسي بالكذب، مما جاء فيه: “إن المغرب الذي التزم صمت الفضيلة إلى حد الساعة يدين الاتهامات الموجهة ضده، ويشدد على ثقته ومسؤوليته”.

وسيزداد هذا السعار الرسمي مع تصريح وزير الخارجية الفرنسي موريس كوف دي مورفيل، الذي أمل في إقالة أوفقير أو إبعاده، ومع الندوة الصحفية التي نظمها شارل دوغول، وكانت فيها أصابع الاتهام تتجه إلى السلطات المغربية التي قدمت الحماية للمجرمين. ولإتمام مسطرة البحث وجه القاضي زولينجر المكلف بالتحقيق في الملف طلبا للسلطات المغربية للانتداب القضائي من أجل الاستماع إلى تصريحات أوفقير والدليمي يوم 14 نونبر، خاصة بعد بروز جزء من شبكة الخيوط السرية الرابطة بين الدليمي، مدير الأمن، وفواتو وسوشون من الشرطة القضائية الفرنسية، والذي كان يحمي لوبيز كعميل سري، وبوتشيش، شريك لوبيز في فنادق الدعارة، وعطية كزعيم عصابة وأصدقائه، باليس، دوباي، لوني، ومحور العملية جورج فيغون.

هذا التلاقي الغريب بين عناصر الإجرام وضباط الشرطة هو ما دفع صاحبا كتاب “لقد اغتالوا بن بركة” إلى القول: “إن بن بركة سقط في فرنسا ضحية هذا التحالف الشاذ الذي يربط بعض من هم مطالبون بالدفاع عن القانون مع من يحتالون عليه”.

في الأسبوع نفسه توصلت النيابة العامة بالرباط من وزارة العدل المغربية بأمر اعتقال دولي وطلب ترحيل المجرم بوتشيش، وقد اجتمع إثر ذلك مجلس الوزراء لمدة يومين للتداول في الأمر.

أما على مستوى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فكان لوقع الخبر أثر الصاعقة، إذ أصدرت الأمانة العامة بيانا تدين فيه الاختطاف وتطالب بكشف الحقيقة وإدانة أي مناورة لتحريف طريق التحقيق، رابطا بين الاختفاء ووجود مسؤولين مغاربة كبار لمدة طويلة بباريس.

أم الشهيد السيدة فطومة بوعنان لم تجد سبيلا سوى مراسلة دوغول، تستفسره عن مصير فلذة كبدها. وخارج البروتوكول، يتصل شارل دوغول عبر سفارة فرنسا بالرباط بأم بن بركة مطمئنا إياها بأن العدالة ستأخذ مجراها.
رغم مرور خمسة عشر يوما، لم تقم الشرطة الفرنسية سوى بأربعة اعتقالات رغم أنها جمعت قرائن تدل على مسؤولية الجهاز المخابراتي، وتورط كبار موظفي الأمن المغربي، وأحد أعضاء الحكومة النافذين في الرباط، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي دوغول يستشعر وجود عراقيل في التحقيق، في وقت أثارت الأسبوعية الديغولية “جمهوريتنا” فرضية تورط المصالح السرية الفرنسية في العملية، واكتشاف الخيوط الإسرائيلية في الملف، ما دفع دوغول إلى القول: “العملية برمتها عليها خاتم تل أبيب”. ونتيجة لذلك تجمدت العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية، وهو ما فجر الصراع داخل إسرائيل، حيث انهال النقد على رئيس الموساد عاميث من كل صوب رغم تأكيده أن الموساد لم يتجاوز دوره توفير بضعة جوازات سفر واستئجار سيارات، وظل سلفه إيسارهاريل يردد أن عملية بن بركة لم تكن لتحدث على عهده، وهو ما خلف نقاشا كاد يعصف بالحكومة الإسرائيلية.

“أسرار الدفاع” تحجب الحقيقة

مازالت قضية اختفاء المهدي بن بركة تطرح الكثير من الغموض، بحكم تداخل مصالح أكثر من دولة في القضية، وهو ما يترك بياضات كبرى في خيوط العملية، وحتى في تحديد طبيعة القضية قضائيا، هل هي سياسية؟ أم تمس الأمن؟ أم تتعلق بالتجسس؟ أم الإجرام؟.

فحين جاء قرار غرفة الاتهام يوم 25 نونبر 65 وأخبر العميد بوفيي بإغلاق الملف بعد ثلاثة أسابيع من التحقيق، لم يقدم أجوبة شافية لا حول مصير المهدي ولا عن طبيعة الملف.

وإذا كان الملف أحيل على أنظار المحاكم مرتين، في خريف 66 وربيع 67 بباريس، فإن القضاة حكموا بالاختطاف وليس بالاغتيال، وهذا ما دفع أبناء الزعيم الاتحادي وعلى رأسهم البشير بن بركة إلى رفع شكوى جديدة حول “القتل العمد والمشاركة في القتل”، فالقضية التي حقق فيها القاضي زولينجر بعد الدعوى التي رفعها عبد القادر بن بركة توبع فيها المتهمون بتهمة “الاعتقال غير القانوني والحجز لمدة شهر والمشاركة”، حيث صدر الحكم في 67 بتبرئة الدليمي والماحي وفواتو ولوري والصحفي بريني، وحوكم لوبيز وسوشون بثمان و 6 سنوات سجنا نافذا، وعلى أوفقير والمجرمين الهاربين بالحكم المؤبد.

وظلت القضية مجمدة حتى تم إحياؤها في أكتوبر 75، حيث أسندت إلى القاضي هوبير بانسو ونائب المهدي المحامي موريس بوتان، الذي كان حاضرا في محاكمتي 66 و67 ، حيث راسلا كل الرؤساء والوزراء في الدول المعنية لرفع اليد عن الوثائق المرتبطة بالملف، لكن بدون جدوى، إذ لم يتمكن القاضي في 14 ماي 1982 من الاطلاع سوى على 200 وثيقة موجودة بوزارة الدفاع الفرنسية بدعوى “سر الدفاع”، كما أن المخابرات المركزية الأمريكية أغلقت الباب في وجه البشير بدعوى “الأمن القومي”.

وتزداد صعوبة البحث اليوم في القضية بسبب إغلاق أرشيف الأجهزة الحساسة من جهة، وأيضا بسبب عامل الزمن الذي أدى إلى موت عدد كبير من المشتبه فيهم والشهود الأساسيين والمساعدين، من الجنرال دغول إلى جاك فوكار ووزير الداخلية روجي فراي، والجنرال أوفقير والدليمي، وجورج فيغون، محور العملية الذي تم إدخاله إلى مستشفى المجانين، حيث وجد مشنوقا يوم 17 يناير 66، ولويس سوشون والمجرمين الأربعة الذين تمتعوا بحماية السلطات المغربية قبل تصفيتهم حسب ابن الزعيم الاتحادي، وآخرهم جان باليس الذي توفي في الرباط في شتنبر 1979.

The post "الجثة الملغزة" .. كوكاس ينبش أسباب غياب الحقيقة في قضية بن بركة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3k559qA

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire