من بين الطرائف التي علقت بذاكرتي ما اتصل منها باللغة الفرنسية التي تحكمت في مساري الدراسي ورهنت مصيري المهني مثلما فعلت بالنظام التعليمي لمملكتنا “الشريفة”، وبسياستها واقتصادها وتاريخها أيضا، أذكر أنه في يوم من أيام الاحتفال بذكرى “وطنية مجيدة”، نظمت مدرستنا مسابقة ضمت جمعا من التلاميذ “المتفوقين”.
سيق الجمع إلى قاعة لم يكن فيها من الوطنية غير الأعلام وقلوبنا المتحمسة. كانت عيوننا ونحن صغار تتفرّس وجوه الأساتذة أعضاء اللجنة هنيهة، ثم تعود لتحدّق مليا في ما تراصّ على الطاولة من جوائز.
استرسلت الأسئلة تباعا، كان المسؤول عن منح الإذن بالإجابة ماكرا في انتقاء الأصابع المتعالية بحماس طفولي بريء، ماهرا في اختيار سعداء الحظ؛ فالجزاء لم يكن حليف الأسرع كما هو معتاد ومتوقّع في مثل هذه الحالات! فما بين إيعاز وتلميح تساقطت الجوائز بين أيدي من بضّ بدنه من أصحاب الشعر الناعم والمصفف بعناية، وصويحبات الضفائر بوردة على الجانب.
كان الانتقال من مجال معرفي لآخر مقرونا بتوالي النكسات؛ استهلت المسابقة باللغة العربية، كان الرفع خلالها من نصيب أبناء الفاعلين، فيما وقع النصب علينا نحن سلالة المفعول بهم وفيهم لكن ليس لأجلهم بأي حال. بعدها حانت لحظة الرياضيات، كان الجمع مرحوما هذه المرة، بينما لم يكن الطرح معصوما ولا سالما من الاحتفاظ ببعض الألم. وحيث أنّ القسمة كانت ضيزى، فلم يتبق لنا حينها سوى الضرب بالكف على الكف، وتوسّم الخير في نشاط علمي بدت فيه الدارة الكهربائية أشد إضاءة وتنويرا من شمعنا وقناديلنا. أما “مفترشو” الجوائز فقد وهبوا قدرة عجيبة على تمييز من تنوع غذاؤه ممّن تنمّط و”تعشّب” وخلق ليحيا نباتيا قبل أن يغدو أسلوب حياة لدى نجوم الفن ومشاهير الموضة والسياسة في أيامنا هذه. وبعد مرور سريع على ثقافة “غير عامة”، انتهى بنا الأمر أخيرا إلى الفرنسية! هُزمنا في ملاعبنا فكيف بنا وقد صرنا في ميدان أصحاب “الفخامة” وبلاط أهل النعومة؟!
طُرح السؤال بلغة الفرنجة طبعا، كان المطلوب إيجاد ضد كلمة “جميل”، ولأن الجمال كان عزيزا في قاموسنا المعيشي، فقد صار من المتيسّر البحث عن نقيضه. صحت والأصبع يرتفع دون إذن؛ لقد علق بالذهن شيء من ذلك: “machi”! عضو من اللجنة لعله قاسمنا يوما الفج العميق الذي ننحدر منه، ينتفض بحركة من يديه وعينيه مبشرا بقرب الفرج، أردفت مسرعا متسرّعا: “méchou”. زمرة النخبة تنظر إلي شزرا وهي متشبثة بغنائمها عاضّة عليها بالنواجذ، فأردد متلعثما: “mo..chi” لتتعالى القهقهات في أرجاء القاعة.
تكرر صياحي مثلما تعددت “مشمشاتي” حتى ضاقت بي عينا مشجعي وصدر اللجنة ذرعا. لقد اتضح أن دائرة الصفوة حصينة مغلقة يصعب النفاد إليها لمشاركتها “الثروة”.
ولأن قدرنا الذي ارتضيناه لأنفسنا كرها أو طواعية منذ “فَرنستنا” ينحصر في المتابعة والمشاهدة فحسب، فقد دفعني الفضول في ختام المسابقة إلى أن أتلصص على طبيعة الجوائز بين أيادي أصحاب السعادة، كانت عبارة عن مجلات تحكي سِير أعلام وشخصيات ولحظات “مجيدة” من تاريخنا “الوطني العظيم”، بدفات متينة شبيهة بحظ حامليها وجباه مؤلفيها، وبأوراق صقيلة تحوي صورا ورسوما ومشاهد ملونة نكاية في عالمنا المنذور للأسود و”الأبيض”.
مرت السنون ولم نعد أطفالا، لكنّ نكسة الفرنسية وحرقة عدم الظفر بواحدة من تلك المجلات ظلّت تلازمني لسنوات عديدة إلى أن اشتريت لأبنائي -على شاكلة من ينتقم لتاريخه في الحرمان- حزمة موسوعات ومجلات بنفس الفخامة سمكا ولونا، لكن محتواها هذه المرة كان خليطا من عوالم الفلك، والنباتات والطيور والبحار، والزلازل والبراكين.. فقد كانت أفضل على كل حال من كثير من “الشخصيات” والرموز “الوطنية” وأجدى في بعث الإحساس بالرحابة والجمال وصدق الألوان والتاريخ، والحاجة إلى الحراك والتغيير.
The post هكذا كرهت الفرنسية! appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3bXVUmT
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire