الغنوشي الذي فقد رشده

لم يكن الغنوشي غير موفق فقط وهو يستثني المغرب وموريتانيا من المغرب العربي الكبير الذي يحلم به الشعب المغاربي، بل تعدى ذلك ليكون صاحب بدعة حين أطلق هذه الفكرة الغريبة التي لم يسبقه إليها أحد في السياسيين المغاربيين، ولا هي راودت حتى مخيلة أولئك الذين زرعوا الأسافين بين الشعوب في منطقتنا المغاربية. فحتى عندما نكون إزاء مناهضين للأمة في تطلعاتها بالفعل السياسي أو العسكري على أرض الواقع، فإننا ومن باب اللياقة والأدب، ونظرا لطبيعة الجينوم الذي نحمله جميعا في صبغياتنا الحضارية المغاربية، يحتفظ هؤلاء المعرقلون في حيز ما على الأقل لهذه الأمة بحلمها الوحدوي خالصا من الشبهات والشوائب ومن التحريفات على وجه الخصوص، ولو دفعوه بعيدا إلى الطبقات العميقة للوعي والوجدان، لأن ثمة دائما أمل أن جيلا ما سيأتي غدا، وسيكون مختلفا عن الآباء، مترفعا عن الضغائن والأحقاد والحسابات الصغيرة، وبالتالي قادرا على تحقيق ما أخفقت في إنجازه القرون التي سبقته من التئام ووحدة.

ولذلك سنحاول أن ندري أي مس من الشيطان قد طاف بالسيد الغنوشي حتى “اجتهد” على هذا النحو…. هو الذي يبدو كما لو فقد رشده عندما أفرج عن هذه الوصفة الوحدوية المحورة، الملغومة، والمثيرة للامتعاض والاستهجان، لربما هي أعباء وثقل السنين التي تقلب فيها طويلا بين الزعامة والتقية والتنظير لمريديه تلقي على لسانه هذه الترهات، أو هي مرجعيته وترتيباته الإخوانية قد شطحت به بعيدا عن منطق التاريخ، أو هي أشياء من كل هذا. لكن إذا تمحصنا قليلا في التصريح وجمعنا أجزاء الصورة وربطنا الماضي بالحاضر، وتبينا الخلفيات، ثم تمعنا في المعطيات الإقليمية، فنستطيع حتما أن نفهم أسباب هذا التصريح المخدوم ونتلمس جذوره التي لن تخفى. ما لذي تختلف فيه ليبيا والجزائر وتونس مجتمعين عن المغرب وموريتانيا في نظر الغنوشي؟ هذه البلدان يجمعها كل شيء إلا أمرا واحدا نظن أن الغنوشي يستثمر فيه لأجل هذه الخرجة المدروسة جدا. وهو كون المثلث الذي تحدث عنه الغنوشي كان ضمن الإمبراطورية العثمانية بينما وقفت الجيوش الانكشارية على حدود المغرب على أيام الدولة السعدية. ولذلك فالغنوشي الذي يطبق الأجندة المعلومة ما زال واقفا عند هذه المرحلة من التاريخ، هو يمهد بهذا التحالف الثلاثي الذي يغري به للتمدد التركي وليس لبناء المغرب العربي. لكنه يتبع للتقية سياسة الخطوة خطوة. وما لتقف إخوان الجزائر أخرجته إلا دليل على أن الأمر مدبر داخل تيار وليس فلتة لسان.

دائما وعبر التاريخ ومنذ تأسيس الغرب الإسلامي كان هناك نزوع ونجاح في الاستقلال عن المشرق الإسلامي. وكانت الدول أيا كان منشؤها في خارطة المغرب العربي تحاول دائما توحيده وتراه من حدود مصر شرقا إلى حدود السنغال جنوبا، فعل ذلك الأدارسة، والمرابطون، والموحدون، والمرينيون، من المغرب، وحاوله الحفصيون من تونس. ولكن الغنوشي يضرب صفحا عن كل هذا التاريخ المضيء أو يرتد عنه، كأنه لا يدري مثلا أننا نرى في ابن خلدون التونسي ابن خلدون مغربي ففي المغرب الأقصى وفاس بالتحديد حدث أن تفتقت عبقرية هذا العالم المغاربي.

وفي الحقيقة لم تتوقف عجلة توحيد المغرب العربي إلا خلال التواجد العثماني في شمال إفريقيا الذي انتهى إلى احتلال إيطالي وفرنسي لكامل منطقة المغرب العربي. وها هي هذه الدعوة النكوصية لاختزال المغرب العربي في المحميات العثمانية القديمة تعاود الانبعاث من جديد، بدفع من الأذرع التركية بالمنطقة وتحديدا على لسان زعيم النهضة الغنوشي الذي يستقبل بتركيا استقبال الرؤساء أو استقبال البايات، وكذلك بعد أن وضعت تركيا رجلها الأولى بليبيا. والغنوشي يمهد الآن لها لتطلق رجليها معا.

الغنوشي يطبق الخطة التركية القائمة على تفتيت العالم العربي وخلق محاور تابعة لتركيا تمكنها من التدخل والهيمنة: محور في الخليج لمواجهة السعودية والإمارات، ومحور في الشام لمواجهة العراق، ومحور في المغرب الكبير وهو الذي تحدث عنه الغنوشي لمواجهة مصر شرقا والمغرب غربا.

ولذلك فالفكرة ليست اعتباطية ولا بريئة. إذ هي تكشف خطة محكمة تروم مآرب أخرى. هي تناقض المزاج الوحدوي للشعوب المغاربية الذي لا يتأثر في جوهره بالظرفية السياسية التي مهما طالت ستبقى عابرة في مجرى نهر التاريخ الطويل. هل ننسى أن الحركات التحريرية والطلابية خلال حقبة الاستعمار كانت تنسق على مستوى المغرب العربي واضعة نصب عينيها بناء هذا الصرح الوحدوي لولا انحراف القادة الجزائريين ونظامهم العسكري الذي أخر هذا المشروع ووأده حين سعى إلى زيادة كيان وهمي انفصالي في المنطقة، وهو المشروع المجافي بمنطق ومبدأ الوحدة. لذلك لا نعرف كيف يؤصل الغنوشي نظريا لهذا المثلث الذي يضم نظاما قدم البراهين على أن هدفه هو الفرقة ومزيد من التقسيم. ويستثنى المغرب الذي يستحيل بدونه أن نتحدث عن أية هوية مغاربية لأي تجمع إقليمي. فالمغرب هو روح المغرب العربي وعلامته المنسابة عبر التاريخ. المغرب العربي يستمد خصوصيته وتميزه عن المشرق العربي بفضل البعد الأمازيغي والشعب المغربي هو أكثر شعوب المغرب العربي ارتباطا بهويته الأمازيغية.

فكيف إذن نتحدث عن مغرب كبير يقصي المغرب وهذا الكيان نفسه يستمد تسميته من المغرب؟؟ وكأننا نتحدث عن دولة بدون مدينة تونس أو الجزائر بدون مدينة الجزائر؟؟. يدعو الغنوشي إلى كيان هجين ومستوى عن السياقات التاريخية والحضارية. كان من الممكن أن يطالب الغنوشي بفتح الحدود بين تونس وجاريها، ويبني ذلك على علاقات التعاون التي يجب أن تسود بين كل دولنا، وأن يستمر في اعتبار المغرب العربي منطقة إقليمية تبنى على أساس صهر الدول الخمسة دون استثناء، وكان له أن يعتبر في هذا حلا واقعيا للمشكلة المفتعلة من طرف الجزائر جنوب المغرب في إطار دولة مغاربية واحدة تلغى فيها الحدود بين أفراد الشعب الواحد كما بح بذلك صوت الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي.

الغنوشي يمد يده للنظام الجزائري في عز حراك الجماهير. أي أنه يراهن على نظام فاقد للشرعية لا يمكن أن يفيد البناء الوحدوي في شيء ما دام يحرم شعبه من الديمقراطية والكرامة والحرية.

أخيرا على راشد الغنوشي أن يفهم أن لا مغرب كبيرا بدون البصمة المغربية، كان هذا صحيحا في الماضي ويظل كذلك في الحاضر والمستقبل، إذن فليوجه الغنوشي بوصلة تفكيره إلى الداخل المغاربي إذا كان يريد فعلا أن يحسن النصيحة للشعوب، وأن يصدق في الفتوى.. الفتوى السياسية طبعا.

The post الغنوشي الذي فقد رشده appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3sMTw9l

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire