تفكيك الخطاب المؤسس للمدينة

نشوء المدينة المغربية .. ظاهرة التحضر بفاس قبل الاستعمار

“مدينة فاس.. حرسها الله” السوسيولوجي بول باسكون

الحلقة الخامسة: تفكيك الخطاب المؤسس للمدينة

يقول الإبستمولوجي باشلار: “لا علم إلا بما هو خفي”، لذلك تعلمنا السوسيولوجيا أننا لا نلتقي مع الحقيقة بشكل عفوي وتلقائي، مادامت أعداء الحقيقة من أخطاء وأوهام ومسكوت عنه، تستطيع إخفاء الحقيقية، لذلك سنعمل عبر هذه الحلقة الخامسة على تفكيك المتون النصية أو الخطاب المؤسس للمدينة.

وإذا كانت العناصر والملابسات السابقة التي يوحي بها ظاهر النصوص قد بدت لنا أساسية في تشييد المدينة، فهل بالفعل يمكن الاطمئنان إلى ما تقول؟ ألا تسكت عن أشياء لا تريد التصريح بها؟ لا سيما عندما نعلم أن اختيار المكان (مدينة فاس) لتصبح فاس عاصمة سياسية واقتصادية لم يكن بالاختيار العشوائي، وإنما كان اختيارا محكما رعيت فيه شروط معينة.

لقد خضع اختيار فاس عاصمة سياسية لمحددات أساسية، يمكن أن نذكر منها أن فاس تحتل موقعا استراتيجيا على الصعيد الاقتصادي، فهي من هذه الناحية توجد في ملتقى الطرق التجارية التي تؤدي إلى موانئ أوروبا عموما، وإلى الجزائر وتونس عبر تلمسان، وإفريقيا عبر سجلماسة…

ثانيا: خلفيتها الزراعية التي تجعل منها إحدى المناطق المغربية الأكثر غنى، وربما كان هذا هو الدافع الأساسي الذي دفع بـ”الإمام” إلى اختيار فاس كمدينة-عاصمة، وهذا يوحي بأنه كان مهووسا بالبحث عن قاعدة اقتصادية يتحكّم من خلالها في الطرق التجارية، وهذا الواقع ستؤكده الملابسات السياسية.

فنحن نلاحظ أن إدريس بن عبد لله قد فر من ظلم العباسيين قاصدا المغرب، باحثا عن ملجأ له تحت أمر أخيه محمد الذي تمرد بدوره على المنصور، وبحلوله بالمغرب وجد الأمور قد أُعدت من قبل بعض المبعوثين كان قد تم إرسالهم لهذه الغاية، حيث استقر بوليلي قبل أن يتوجه إلى “فاس”. ونشير بهذا الصدد إلى أن المجتمع المغربي في هذه الحقبة لم يكن قد دخل كلية في الإسلام، حيث يمكن القول بأن هذه المرحلة كانت مرحلة نبوءات بربرية ووضع ترددات بربرية…

إن إضفاء لقب “الإمام” على إدريس نفسه كان بمثابة ستار ديني يخفي من ورائه طموحات أساسية ليوحي بأنه مجرد زعيم ديني حل بالمغرب لنشر الإسلام فقط، إلا أن الأحداث والوقائع تُكذب ذلك، فهو كما يشير العروي عن حق كان مشغولا بهاجسين:

الهاجس الأول هو تأسيس قاعدة سياسية.

والهاجس الثاني هو العمل على نشر الإسلام بين السكان البربر، هذا المشروع هو الذي سيعمل على تنفيذه إدريس الثاني، ولم تكن تلك الوفود العربية من (القيروان وقرطبة) إلى فاس إلا هجرة سياسية يمكن تفسيرها بمعارضة العلويين للأمويين وللعباسيين في الوقت نفسه، ويبدو ذلك من خلال أنه بمجرد ما تم اكتساب قاعدة سياسية، شن إدريس الأول وبعده إدريس الثاني غزوات باتجاه تلمسان، وتعتبر هذه المحاور ذات أهمية سياسية واقتصادية.

تلك كانت على ما يبدو الخلفيات الإيديولوجية والسياسية التي كانت وراء النصوص وحاولت إخفاءها، وستزداد هذه الملابسات وضوحا لدى التطرق إلى بناء مدينة فاس.

أشرنا سابقا أثناء الحديث عن معنى “مدينة” أنها “تتضمن إقامة، وسلطانا لا يضيّع عملا، بل يجازي بالخير والشر”. وبالنظر إلى مدينة فاس، فإنه بعد الانتهاء من بنائها، خطب الإمام إدريس بالمنبر مشيرا إلى أنه لم يرد مباهاة ولا مفاخرة بهذا البناء وإنما أراد أن يُعبد الله ويُتلى كتابه، وتُقام سنة رسوله. إن تنفيذ هذه المسائل العقدية والخضوع لشرع الله وسنته يفترض أولا وجود سلطان إمام، وهو ما يمثله إدريس ذاته، مع ما يتطلب ذلك من إقامة للحدود وتحقيق للعدالة… وهذا يفترض ضمنيا سلطة تنفيذية تقوم بالمجازاة بالخير أو الشر، وهو ما عبرنا عنه بالنواة السياسية التي يمكن إدماجها ضمن النواة الدينية.

ومن تعاريف المدينة أيضا رأينا أنها “الحصن يبنى في أُصطُمّة الأرض”، والأُصطُمّة كما سبق، وسط الأرض أو أحسن مكان بها. وهذه الشروط نلاحظها أثناء اختيار مدينة فاس من حيث الموقع الاستراتيجي الذي تحتله سياسيا واقتصاديا وفلاحيا: طيب التربة بالإضافة إلى طيب الهواء وتواجد كثرة العيون بها…

ولكن من هم هؤلاء الأعداء المحتملون؟ ألا يبدو السور هنا بمثابة فاصل بين واقعين: واقع مسلم يوجد داخل السور، وواقع ليس كذلك يوجد خارجه، لا سيما عندما نتذكر أن إدريس جاء فاشترى بقعة من قبائل بربرية متخاصمة وأصلح بينها وأسلمت على يديه كما يروي الناصري. من المحتمل جدا أن تكون الأمور كذلك، لا سيما وأن القرن التاسع تميز-كما سبقت الإشارة-بمحاولة نشر الإسلام، كما نلاحظ بربرته أيضا (نبوءات بربرية، قرآن بربري…).

ومن بين المعاني المرتبطة بالمدينة التي أشرنا إليها، الاستقرار والتجمع. وهذان يتطلبان تواجد “منبر”، وهو تعبير عن مسجد جامع تُقام به خطبة الجمعة، بالإضافة إلى إقامة سوق يفد إليه السكان تلبية لحاجاتهم، ولعل هذه العناصر الضرورية في إنشاء المدينة من المسائل التي رعيت أثناء بناء المدينة الإسلامية المغربية: فاس.

من العناصر الضرورية لقيام المدينة الإسلامية، التي تشترك فيها كل المدن على العموم مع بعض الاختلافات الخاصة، نجد:

وجود سلطة خاصة مقر إقامة، إذ أن تواجد موظفيها سيعمل على تنشيط عملية تبادل السلع والرواج التجاري…

وجود مركز دائم لتبادل السلع (السوق) من أجل سد حاجيات السكان.

وقد مثلت فاس-في هذه الوجهة لمدة طويلة من الزمن-عاصمة سياسية واقتصادية؛ فقد شكلت منذ الأدارسة مركزا إشعاعيا على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية… ورغم ما عرفته من فترات تقلص، يمكن القول بأنها عمت المغرب ككل، لا سيما في القرنين 17 و18، مما مهد إلى دخول الاستعمار ليُحكم قبضته على كل المغرب ويطمس معالم المدن من خلال اختلاق حواجز بين المدن، التي ستصبح إثر دخوله عتيقة أو تقليدية في مقابل المدن “الحديثة”، وهذا ما سيتبين لنا لاحقا.

الحلقة السادسة: التنظيم الاقتصادي للمدينة

The post تفكيك الخطاب المؤسس للمدينة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3ugeU7Z

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire