السويني: تدبير المؤسسة الملكية لأزمة الزلزال يرسخ صورة "الدولة القادرة"

قال الدكتور المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن بلاغ الديوان الملكي بعد الزلزال حمل عنوانا رئيسيا مرتبطا بالفعل والقدرة على الفعل، مبرزا أن المؤسسة الملكية أثبتت القدرة السياسية المؤسساتية على الفعل وعلى تحريك باقي المؤسسات.

وأضاف الباحث ذاته، ضمن حوار خاص ينشر على جريدة هسبريس، أن المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس، من خلال إستراتيجية المغرب القادر والمغرب الذي يقود إستراتيجية الاستيقاظ الجيو- إستراتيجي، خلقت الإبداع والقدرة على ابتكار التوليفة المالية التي تمكن الدولة من التوفر على قوة الضرب الميزانياتية من أجل تمويل تكلفة محاربة آثار الزلزال.

كما شدد السويني على أن الملكية أكدت أن مغرب اليوم هو ليس مغرب السكتة القلبية، وليس المغرب الذي يستجدي المساعدات، بل المغرب القادر الذي يملك قرار قبول المساعدات أو رفضها.

وهذا نص الحوار:

كيف تعامل مغرب المؤسسات مع الأزمة التي أحدثها الزلزال؟.

في البداية وجب التأكيد أن الشارع في مرحلة الأزمات، وخصوصا الزلازل، يبحث دائما عن الفعل القادر والفعل السريع والفعل الفعال، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو: أين السلطة؟ السلطة بمفهوم الجهة القادرة على الفعل وعلى دفع الآخر للفعل (السلطة التي تملك سلطة القرار الذي يلزم الجميع)، وكذلك الجهة القادرة على التحديد والتأثير على التوجه الجماعي للفعل؛ وبالتالي الجهة القادرة على الفعل وعلى حكامة الآخرين وتوجيه أفعالهم.

إذا كانت غالبية الديمقراطيات الحديثة تتميز بصعوبة تحديد مكان السلطة، لأن الديمقراطية تقتضي أن تكون الأخيرة في كل مكان (لأن أساس السلطة الديمقراطية أنها موزعة على الجميع)، فكما يقول جون كلود توينغ فإن السلطة تكون موزعة بين مجموعة من الفاعلين، وبالتالي فإن القرار العمومي هو توافق بينهم، فإن الشعوب في اللحظات الصعبة والحرجة من تاريخها (أزمة كوفيد-الزلازل) تبحث عن القرار القوي والسريع والذي يلزم الباقين، ولا تبحث عن القرار الذي يحتاج إلى صناعة الإجماع حوله. تبني الديمقراطيات الحديثة إستراتيجية السلطة الموزعة خلق لنا في الحقيقة ما أطلق عليه الفيلسوف كلود لوفور “المكان الشاغر للسلطة”.

وفي التجربة المغربية يحسب للعقل الدستوري المغربي أنه عمل على ترسيخ “المكان المشغول للسلطة”، وليس “المكان الشاغر للسلطة؛ وهكذا عمل الدستور المغربي على تحديد المكان الدستوري للسلطة القادرة على تحريك الفعل الجماعي، وعمل على تسليط الضوء على اختصاصات هذه السلطة (خصوصا أنه في مرحلة الأزمات أساسا تبقى الاختصاصات مرتبطة بالمسؤولية عن عدم الفعل).

ووجب التأكيد كذلك أن الشعوب في مرحلة الأزمات لا تحتاج فقط إلى تحديد مكان السلطة المسؤول عن الحشد وعن الفعل، بل تحتاج كذلك إلى أن تثبت هذه السلطة القادرة على الفعل أنها تشتغل من داخل مربع “السلطة السياسية القادرة والسلطة السياسية الفاعلة”. وفي هذا السياق يقول الاقتصادي وكاتب الافتتاحيات الفرنسي نيكولاس بافيريس إن السياسة من المفروض أن تندرج داخل عالم الفعل المعتمد على الثلاثي “الإرادة القوية -التقنية والخبرة- مواجهة الواقع بشجاعة”، لأن الخطر الكبير في مرحلة الأزمات والكوارث يتمثل في أن تضطر الشعوب إلى مواجهة الثنائي المكون من “الكارثة الطبيعية المتمثلة في الزلزال-عجز الطبقة السياسية عن الفعل”.

ومن المعروف من خلال التجارب الدولية أن اجتماع الثنائي المكون من “الأزمات-العجز السياسي” ينقل الفعل من السياسة المؤسساتية إلى السياسية غير المؤسساتية، والسياسة التي تشتغل ضد المؤسسات، لأن الشارع هو كذلك قوة رفض وقوة لإعادة بناء السياسية، ما يثبت أن السياسة العاجزة في مرحلة الأزمات تدفع الدول نحو وضعية الفوضى.

ويحسب للمؤسسة الملكية أنها أثبتت قدرة السياسية المؤسساتية (الملكية) بالمغرب على الفعل، وعلى تحريك باقي المؤسسات. وهنا لا يجب إغفال بلاغ الديوان الملكي مباشرة بعد الزلزال، الذي حمل عنوانا رئيسيا مرتبطا بالفعل والقدرة على الفعل، حينما أكد على “عقد الملك محمد السادس جلسة عمل”. ووجب التأكيد هنا أن هذا العنوان اندرج تحت إستراتيجية الفعل عندما أجاب عن السؤالين الأساسين المرتبطين بالفعل العمومي، وهما من هي المؤسسة التي ستشرف على الفعل وتديره؟ وما هي أجندة الفعل؟ والجواب عن السؤال الأول من خلال لغة بلاغ الديوان الملكي كان واضحا جدا؛ من سيشرف على الفعل هو الملك، وبالتالي السلطة الدستورية المؤسساتية والمحورية. لكن لا يجب كذلك إغفال أن ذكر محمد السادس هو تأكيد كذلك على ما يطلق عليها “السلطة الشخصية” (ما تضيفه طبيعة الشخص للمنصب المؤسساتي). أما الجواب عن السؤال الثاني المرتبط بأجندة الفعل فيجد تفسيرا له من خلال مصطلح جلسة عمل. ومن المعروف في ثقافة التدبير العمومي أن جلسة العمل هي الجلسة التي يتمخض عنها الفعل العمومي مباشرة، وهي الجلسة التي تناقش الثنائي المكون من “القرار- التنفيذ”؛ وبالتالي فإن المؤسسة الملكية بالمغرب في مواجهة الزلزال اندرجت تحت عنوان السلطة القادرة والسلطة الفاعلة.

ما هي في نظرك الإضافة الإيجابية للسلطة المؤسساتية والسلطة الشخصية في مواجهة الأزمات، وخصوصا الزلزال الأخير؟.

في مرحلة الأزمات ومرحلة الكوارث تحتاج الشعوب قبل الإعلان عن الفعل المرتبط بمواجهة الكوارث إلى الإحساس بالثقة وبالطمأنينة، من خلال الانتقال بها من مرحلة وزمن الغموض واللايقين (الذي تحدثه الكوارث) في المستقبل والحل إلى مرحلة الثقة والإيمان بالحل القريب، وهذا لا يأتي من فراغ ولا يأتي بين عشية وضحاها، بل يأتي من خلال السيرورة التاريخية والتجربة الجماعية التي تجمع الشعوب بمؤسساتها. وبالتالي فإن المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس تستعمل هنا تاريخها الإيجابي السابق في التعامل مع الوضعيات المماثلة وقدرتها على قيادة سفينة الوطن بنجاح نحو بر الأمان.

وهنا يحسب للملكية في عهد محمد السادس أنها استطاعت أن تنقل بنجاح الديمقراطية المغربية من الديمقراطية التي تدبر من خلال الغضب والمواجهة، وديمقراطية الوجه لوجه بين الشارع والمؤسسات في مرحلة الأزمات (وهنا يستحضر الباحث أحداث مارس 1965 وأحداث السبعينيات وأحداث الثمانينيات وأحداث التسعينيات، وكلها كانت أحداثا تعطي صورة سيئة عن كيفية مواجهة المغرب للأزمات من خلال الاعتماد الكلي على ديمقراطية المواجهة وديمقراطية: رابح -خاسر، ومغرب زمن الرصاص)، إلى الديمقراطية التي تواجه الأزمات من خلال الثنائي المكون من “المؤسسة الملكية-الشارع”، وهي ما يطلق عليها الديمقراطية الهادئة في مواجهة الأزمات، وهي ديمقراطية تعيد اللحمة بين مغرب الحاكمين ومغرب المحكومين، ديمقراطية تعيد التواصل بين المغرب الذي فوق والمغرب الذي يوجد في الأسفل، وديمقراطية تعيد اللحمة بين “المؤسسات-الشارع”. ويحسب للعهد الجديد أنه نجح بشكل كبير في ترسيخ الديمقراطية الهادئة في مواجهة الأزمات.

والديمقراطية الهادئة تفرض نموذجا للحكم لا يعتمد على العنف والقوة، بل ديمقراطية تعتمد على القدرة على صنع الوحدة وعلى معرفة كيف تجمع وكيف توحد، وديمقراطية تعتمد على فن صناعة التوافقات في الوضعيات الصعبة والزمن الصعب (كزمن الزلازل)، خصوصا أن القدرة على التعامل مع الوضعيات الصعبة هي التي تفرق بين رؤساء الدول كرجال دولة كبار والعكس.

كما أن الديمقراطية الهادئة من المفروض أن تعتمد على ميكانزمات وآليات جديدة للعلاقة بين المغرب الشرعي والشارع في زمن الأزمات.

وفي هذا السياق فإن ترسيخ الديمقراطية الهادئة، من خلال الحكامة المعتمدة على الهدوء بدل الحكامة المعتمدة على الغضب ورد الفعل بالمغرب، كان يتطلب تصورا جديدا للعلاقة بين المشروعيات الثلاث بالمغرب: المشروعية الملكية-المشروعية البرلمانية -المشروعية الشعبية، في مرحلة الأزمات. وإذا كان المغرب السابق اعتمد في مواجهة الأزمات على ثنائية المشروعية الملكية والمشروعية البرلمانية في مواجهة المشروعية الشعبية، فإن الديمقراطية الهادئة اليوم كانت تعتمد على بناء التواصل بين المشروعيات الثلاث. أما في مرحلة الأزمات فالمطلوب التركيز على تعزيز أواصر العلاقة بين المشروعية الملكية والمشروعية الشعبية (لأنهما المشروعيتان المرتبطتان بالزمن الطويل والاستقرار، بينما الزمن البرلماني والزمن الحكومي المحدودان يجعلان من نخبهما مرتبطين بالزمن القصير والزمن المرتبط بالسوق السياسي وبالسياسة المرتبطة بالعائدات الانتخابية الفورية؛ وبالتالي تعتبر النخب البرلمانية والنخب الحكومية كالمسافرين السريين المرتبطين بالزمن السياسي القصير داخل الزمن الطويل للشعوب).

التموقع الجديد للمشروعية الملكية بين المشروعية البرلمانية والمشروعية الشعبية عمل على الانتقال بالمجتمع المغربي في مرحلة الأزمات من المجتمع التناقضي إلى المجتمع الموحد، ما عمل على تقوية المشروعية الملكية. وهنا وجب التأكيد أن محاسبة المسؤولين على التعطيل الذي عرفه مشروع منارة المتوسط كان انحيازا للملك للجبهة الشعبية المحتجة على التعطيل ضد جزء من الجبهة النخبوية (المسؤولة عن التعطيل)، سواء منها المعينة بظهير أو المعينة بمرسوم.

والمؤسسة الملكية في عهد محمد السادس اعتمدت كذلك على قراءة جديدة لما قاله السوسيولوجي ماكس ويبير من أن الدولة تحتكر استعمال القوة المشروعة. وبالنسبة للمؤسسة الملكية فإن القوة المشروعية لا يجب فهمها من خلال استعمال القوة والعنف في العلاقة بين الثنائي المكون من “السلطة-الشارع”، بل تعني القوة المعتمدة على الأفكار وعلى البحث عن الأفكار وعن الحلول والتوافقات، لأن الأفكار والحلول والتوافقات هي التي تصنع الوحدة، وهي التي تصنع القوة التي تجمع. وبالتالي يحسب للملكية في عهد محمد السادس القدرة على صناعة مقاربة سياسية تعتمد على ترسيخ الوحدة داخل المجتمع بدل مقاربة سياسية تعتمد على المواجهة.

وفي الأخير وجب التأكيد أن عمل العقل السياسي المركزي المغربي في عهد محمد السادس من داخل الثقافية السياسية التي تبحث عن التوحيد والجمع وصنع التوافقات هو الذي صنع الأرضية الخصبة لمد الجسور بين المغرب الشعبي والمؤسسة الملكية، وعمل بالتالي على تمهيد الطريق نحو تجاوز مرحلة الأزمات بسلاسة وهدوء وحكمة (دون عنف ودون ضحايا).

هل نجح المغرب من خلال تدبير مرحلة الزلزال في ترسيخ صورة “الدولة القادرة”؟.

تدبير المؤسسة الملكية لأزمة الزلزال لم يتم فقط من خلال ترسيخ الديمقراطية الهادئة، بل كذلك من خلال إستراتيجية المغرب القادر. وهنا وجب التأكيد على أن المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس، من خلال إستراتيجية المغرب القادر والمغرب الذي يقود إستراتيجية الاستيقاظ الجيو-إستراتيجي، عملت على التأكيد أن مغرب اليوم هو ليس مغرب السكتة القلبية، وبالتالي على الآخر أن يأخذ بعين الاعتبار الوضع الجديد لمغرب اليوم (ليس هو المغرب الذي يستجدي المساعدات، بل هو المغرب القادر الذي يملك قرار قبول المساعدات أو رفضها). وبالتالي عمل المغرب على مطالبة الآخر بما قاله الفيلسوف هيغل، إذ حث على ضرورة قراءة صحف الصباح لمعرفة الوقائع الجيو- إستراتيجية الجديدة.

وإذا كان مغرب السكتة القلبية مكبلا بثنائية “القرار السياسي- سياسة التقويم الهيكلي”، ما عمل على تقييد القدرة على الفعل السياسي، وبالتالي لجوئه إلى المحافل الدولية (خصوصا المؤسسات المالية) من أجل المساعدة، فإن هذه الثنائية أنتجت لنا في واقع الأمر إرادة سياسة مقيدة ومكبلة وعاجزة عن الفعل بحرية، لأن القدرة السياسية مرتبطة بشكل وثيق بالقدرة المالية.

ووجب التأكيد هنا أن القدرة المالية للدولة ترهن بشكل كبير القدرة على الفعل في مرحلة الأزمات، وخصوصا الزلازل، كما أن القدرة المالية أنتجت لنا منذ نهاية القرن الماضي ما يطلق عليه القادة المحاسبين بدل القادة السياسيين. والقادة المحاسبون هم القادة الذين يشتغلون تحت رحمة وجود الاعتمادات ونسب العجز ونسب المديونية، ما يقيد بشكل كبير قدرتهم على الفعل السياسي.

وفي هذا السياق نستحضر ما أكد عليه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران من أن: العولمة مع البناء الأوروبي (تحديد سقف العجز) تنقل فرنسا من عصر الزعماء الكبار بإنجازاتهم إلى عصر الرؤساء المحاسبين.

والمؤسسة الملكية في عهد محمد السادس كانت تؤكد خلاف ما ذهب إليه فرانسوا ميتران من خلال ترسيخ المغرب القادر، والمؤسسة الملكية القادرة؛ على أن عصر الزعماء السياسيين القادرين مازال مفتوحا، لكن بشرط الإبداع في صناعة الهندسيات المالية التي تسند الزعماء السياسيين القادرين.

ويحسب للمؤسسة الملكية قدرتها على ترسيخ المغرب القادر من خلال الإبداع والقدرة على ابتكار التوليفة المالية التي تمكن الدولة من التوفر على قوة الضرب الميزانياتية، من أجل تمويل إستراتيجية الاستيقاظ الجيو سياسي أو من أجل تمويل تكلفة محاربة آثار الزلزال من خلال تجند الجميع من مغرب الحاكمين ومغرب المحكومين، ومغرب رجال المال والأعمال؛ والدليل مساهمة الكل في تكلفة محاربة الزلزال (الملك-البرلمان-الحكومة-المؤسسات -بنك المغرب -المكتب الشريف للفوسفاط -الموظفون -المواطنون -المجتمع المدني-القطاع الخاص). ووجب التذكير أن هذا الإبداع هو الذي ينقل زعماء الدول من الزعماء المحاسبين إلى مصاف الزعماء السياسيين المبدعين.

وفي الأخير وجب التأكيد على أن المؤسسة التي تجتهد من اجل التوحيد والجمع وتشتغل تحت سقف الديمقراطية الهادئة وديمقراطية الأفكار والحلول وصناعة التوافقات وصناعة الهندسيات المالية المبدعة هي المؤسسة الوحيدة (نعني المؤسسة الملكية) التي بإمكانها أن تكسب ثقة الناس، من أجل دفعهم إلى المساهمة إبان مرحلة الأزمات والكوارث الطبيعية، وبالتالي ليس من السهل ترسيخ المغرب القادر من خلال سلطته السياسية القادرة والمبدعة والجامعة دون ترسيخ ديمقراطية جنبا لجنب بدل ديمقراطية وجها لوجه السابقة.

The post السويني: تدبير المؤسسة الملكية لأزمة الزلزال يرسخ صورة "الدولة القادرة" appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/8C74vrT

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire