صدر للكاتب والباحث الأكاديمي محمد جبار، عن مطبعة الكرامة بالرباط، كتاب “أشكال التواصل في التراث الثقافي الحساني بمنطقة تيرس-وادي الذهب (دراسة أنثروبولوجية)”، من تقديم الدكتور محمد دحمان، أستاذ علم الاجتماع والثقافة الحسانية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة.
ويتوخى الباحث في الإعلام والاتصال والتراث الحساني، من خلال هذا الإصدار، الغوص في أشكال التواصل عند البدو الرحل في التراث الثقافي الحساني بمنطقة تيرس- وادي الذهب، وسياقات هذا التواصل في الصحراء المغربية، بخلفية اجتماعية، تاريخية، وثقافية، لا بخلفية تكنولوجية (وسائل الاتصال الجماهيري)؛ وذلك من خلال تجنّب اختزال التواصل في وسائل مادية تقنية أو حتى تكنولوجية بالمعنى التاريخي.
كما تتوخى هذه الدراسة، التي تشكل جانبا من التاريخ الثقافي والمعرفي العريق الذي تزخر به منطقة تيرس- وادي الذهب، التأكيد عبر السياقات سالفة الذكر على الطابع الشفهي للتواصل في الثقافة الحسانية.
ويحاول محمد جبار عبر هذا الكتاب الواقع في 246 صفحة فهم السياقات التاريخية للثقافة الحسانية من خلال أشكال التواصل التقليدية التي أوجدها مجتمع “البِظان”، لأجل الاستمرار في التواصل والعيش المشترك، وكذلك من أجل فهم لغاته ورموزه وإشاراته، وتأكيد أهمية الدراسات التواصلية التي تنطلق من المقاربات المستندة إلى مناهج العلوم الاجتماعية التي تأخذ بعين الاعتبار تطور فعل التواصل الشفهي عبر التاريخ لدى المجموعات الثقافية، المختلف عن الأسلوب التقني النمطي الموجود في نظريات وعلوم الاتصال الصّرف.
كما يروم المؤلف إعادة الاعتبار للدراسات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية الأجنبية حول الثقافات الجهوية بالمغرب، وتمحيصها وتدقيقها، وترجمتها وإعادة نشرها، وعدم ربطها بالإرث الاستعماري الكولونيالي، والابتعاد عن إطلاق الأحكام التقييمية حولها، والوقوف عند الوظائف والمهام التي قامت بها هذه الأشكال التواصلية -بوصفها أشكالا تراثية- في تنظيم المجتمع القبلي الحساني بمنطقة تيرس- وادي الذهب، وتوزيع الأدوار بين مختلف فئاته.
ويؤكد الكاتب أن الهدف الأساسي من هذه المقاربة الأنثروبولوجية بكل أبعادها الثقافية، الاجتماعية واللغوية، هو إيجاد أرضية معرفية تراكمية لتوثيق هذا التراث الحساني في جانبه المتعلق بأشكال التواصل التقليدية التي طورتها قبائل حسان بمنطقة تيرس – وادي الذهب، بهدف أن تعيش، وتتعايش وتتواصل، معتبراً أنه من الممكن إحياء الذاكرة الحسانية عبر هذه الأشكال، عبر العمل الميداني.
ويطرح الكتاب أسئلة عميقة حول النسق الاتصالي التقليدي عند قبائل أهل الصحراء المغربية، الذي يرى الكاتب أنه “لا يمكن فهمه (النسق) خارج السياق التاريخي الحساني الممتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين”، معتبراً أن السياق ضروري لفهم مختلف الممارسات التواصلية التي طورها الإنسان الحسَّاني عبر تاريخه الطويل في تأقلمه مع المجال الصحراوي، مجال الندرة في كل شيء، حيث يصبح التواصل مطلبا من أجل الاستمرار في العيش.
وبعد استحضار الكاتب أن ثقافة أهل الصحراء المغربية هي ثقافة شفهية بامتياز، وإن كان المكتوب موجودا فإنه نادر، وظل من اختصاص فئة الزوايا أو قبائل “أزْوَايَا” أو “أهل لَكْتوبْ” وفق التعبير المحلي، يطرح سؤال إمكانية إحياء الذاكرة الجماعية للثقافة الحسانية وفق هذا المنظور، وإعادة بناء تاريخها الثقافي عن طريق أشكال التواصل التقليدية السائدة اجتماعيا ومجاليا لدى القبائل الحسانية بتيرس- وادي الذهب.
وسجّل الكتاب أن الدراسات التي تطرقت للثقافات الشفهية بالمغرب قليلة بصفة عامة، إذ إن أغلب مداخلها لسانية ولغوية محضة، ولم تستند إلى أي من إجراءات علوم الاتصال ومداخلها، ولم تهتم بأي شكل من أشكال التواصل التقليدية التي طور بها المجتمع ذاته وكيانه الاجتماعي.
ويعتبر محمد جبار أن الحاجة أصبحت ملحة للتركيز على مناهج العلوم الاجتماعية الكمية منها والكيفية، من أجل تفكيك هذه الأنساق الشفهية لمختلف الثقافات الجهوية والمحلية بالمغرب، مشددا على أنه “إذا تتبعنا أشكال التواصل التقليدية وتطورها داخل نسيج هذه المجتمعات المحلية يمكننا أن نجد إرثا أو تراثا مشتركا بينها، يساعدنا في فك بعض رموز هذه الأشكال التواصلية التي تزخر بها الثقافة الحسانية، بمنطقة تيرس- وادي الذهب”.
ويتمحور السؤال المركزي لهذه الدراسة حول ماهية أشكال التواصل التقليدية التي أوجدها المجتمع الحساني، ما جدواها؟ وما هي أدوراها ووظائفها؟ وما علاقتها بالتراتبية الاجتماعية التي كانت سائدة مجاليا في الصحراء المغربية؟ وكيف تطورت مع الزمن؟ قبل ظهور وسائل الاتصال الجماهيري خلال المرحلة الكولونيالية الإسبانية.
وللإجابة عن جميع الإشكاليات التي يعالجها الموضوع، اعتمد المؤلف أسلوب المقابلة مع أشخاص وأعلام مازالت ذاكرتهم حية، حيث مازالوا يتداولون بعضا من هذا التراث الثقافي في جانبه المتعلق بأشكال التواصل التقليدية التي طورها بنو حسان، وحددها بأنساقها وفضاءاتها ضمن قائمة أو دليل إثنوغرافي مكون من اثنين وعشرين شكلا قسمها بدورها إلى ثلاثة فصول، مستأنسا بمقاربات إثنوغرافيا التواصل في تحليل هذه الأشكال والوضعيات التواصلية التي تكتنفها.
ومكّن تأقلم الكاتب مع اللسان الحساني (بالملاحظة والمشاركة) من فك الكثير من رموز هذه الثقافة الشفهية، مؤكداً أن اللسان هو دعامة أساسية وضرورية لأي تواصل وتنمية ثقافيتين، وله سلطة تأسيسية للمفاهيم والتعابير الثقافية التي اشتغل عليها وبها في هذا الكتاب.
The post جبار يرصد التواصل في التراث الثقافي الحساني بمنطقة تيرس وادي الذهب appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/UAmpYJw
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire