كيف أعادت أزمة "كورونا" الاعتبار لمكانة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي؟

قال عبد المنعم علي، باحث بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إن دور بنك الاحتياطي الفدرالي، كأحد مرتكزات الاقتصاد في الولايات المتحدة، برز بشكل جلي في خضم التداعيات الاقتصادية لجائحة “كورونا”، واضطراب سلاسل الإمداد والتوريد العالمية؛ وصار مصرفاً مركزياً يؤثر في سياسات المصارف المركزية في العالم، كما أنه أهم واضع للسياسة الاقتصادية في التاريخ وأداة تمكين للتمويل الحديث.

وأشار الباحث، ضمن مقال له بعنوان: “كيف يتعامل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مع الأزمات الاقتصادية؟”، إلى أن تزايد وتيرة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية نشأ عنه جدال أمريكي بين من يدعم استقلالية دور هذا البنك، وسياساته في التعامل مع الأزمات، وآخرين يرون أهمية خضوعه للمراجعة والرقابة السياسية.

واعتمد الباحث في مقاله على كتاب الباحثة جينا سمياليك المعنون بـ”بلا حدود: الاحتياطي الفدرالي يدخل عصراً جديداً من الأزمة”، الصادر خلال العام 2023، ليخلص إلى أن مساعي بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي للاستقلالية في اتخاذ قراراته، خاصة في السياسات النقدية والمالية، واجهت ضغوطات مختلفة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وكذلك الكونغرس.

ويرى عبد المنعم علي أن جائحة “كورونا”، وما تطلبته من تدخل الاحتياطي الفدرالي للتخفيف من تأثير الوباء وإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى المسار الصحيح، كشفت عن وضعية ومكانة هذا البنك في الاقتصاد الأمريكي والمنظومة الاقتصادية العالمية، من خلال محاولة الاستمرار في تحفيز الاقتصاد لتعزيز انتعاش سوق العمل والسيطرة على حالة التضخم.

الاستقلالية

منذ تأسيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعى إلى الحصول على استقلالية عن مظلة البيت الأبيض التي كانت أكثر تداخلاً في سياساته، خاصة خلال حقبة العشرينيات من القرن الماضي، على ضوء الكساد الاقتصادي العظيم حينها. إلا أن البنك بدا أكثر استقلالية بين عامي 1950 و2000، إذ صارت لديه سياسة واضحة قائمة على محاربة التضخم، خاصة في ظل هيمنة الاقتصاديين عليه بدلاً من رجال الصناعة، ليصير أكثر قوة إلى حدٍ كبير.

وانطلاقاً من أهمية الشفافية والديمقراطية داخل المجتمع الأمريكي، برز في عقد التسعينيات خط يربط بين المساءلة للاحتياطي الفدرالي ومراجعة عمليات السياسة النقدية والنفقات، وهو الأمر الذي اعترضت عليه إدارة البنك، لما له من انعكاسات على دوره الاقتصادي، خاصة أن تطبيق المُساءلة تحت تأثير السياسيين الخاضعين لدورة انتخابية قصيرة المدى قد يؤدي إلى سوء الإدارة الاقتصادية. ففي عام 1993 طالب الديمقراطيون بنشر الحسابات والسياسات التفصيلية للاحتياطي الفدرالي، لكن الأخير بدأ نشر التفاصيل المتعلقة بقراراته منذ فبراير 1994، عندما أعلن عن تغييرات في سعر الفائدة على الأموال الفدرالية، وهو أمر تم إعداده في البداية ليكون لمرة واحدة.

إلا أنه عام 1999 بدأ بنك الاحتياطي الفدرالي نشر البيانات بعد كل اجتماع من اجتماعاته، على أساس أن الشفافية ضرورية للتواصل السياسي الفعَّال والعادل وللحماية من الهجوم السياسي، وأن شرح قرارات السياسة المالية والنقدية يقدم منفعة للعلاقات العامة. لكن مع تزايد تدخل الكونغرس في عمل المؤسسات المالية خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما انعكس ذلك سلباً على الاحتياطي الفدرالي، خاصة مع عدم القدرة على السيطرة على المخاطر المختلفة للسنوات التي سبقت جائحة “كورونا”. ثم جاءت الانتقادات المستمرة من جانب الرئيس السابق دونالد ترامب لسياسات البنك التي كانت توضع بطبيعة الحال تماشياً مع الحروب التجارية المختلفة التي كان يقودها ترامب حينها.

وأدت هذه المتغيرات إلى تراجع قدرة بنك الاحتياطي الفدرالي على اتخاذ قرارات ملائمة لاحتواء الأزمات المالية، ما دفع إلى نشوء اتجاهات إصلاحية للتنظيم المالي الشامل. ودفع ذلك البنك إلى إنشاء مكتب حماية المستهلك المالي الجديد ومجلس مراقبة الاستقرار المالي؛ وهو اتحاد من المنظمين برئاسة وزارة الخزانة يهدف إلى تحديد المخاطر المالية الناشئة، ومن ثم اكتسب الاحتياطي الفدرالي صلاحيات جديدة لتنظيم المؤسسات المالية المهمة على مستوى النظام المالي والاقتصادي.

مقرض الملاذ الأخير

يشير عبد المنعم علي إلى أنه منذ فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين –مرحلة العولمة والرأسمالية الحديثة- واجه الاقتصاد الأمريكي متغيرات متعددة، من بينها التركيبة السكانية الرمادية في الدولة ووضعية اقتصادية دولية مضطربة. تلك المتغيرات فرضت على رؤساء بنك الاحتياطي الأمريكي إعادة صياغة النهج الاقتصادي للاحتياطي الفدرالي لمواجهة التضخم وانخفاض النمو.

وبحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، صعد البنك ليكون أهم مؤسسة اقتصادية في الولايات المتحدة، إذ قام بمواجهة الأزمات الاقتصادية من خلال تحديد أسعار الفائدة وأسعار الصرف، حيث خفضّ أسعار الفائدة لتشجيع الإقراض والإنفاق حال تردي الاقتصاد أو رفع تلك الأسعار حال زيادة الاستهلاك والتوظيف.

وتتمثل الوظيفة الأساسية لبنك الاحتياطي الفيدرالي في الحفاظ على استقرار ونشاط الاقتصاد بوتيرة ثابتة ومستدامة، عبر تعزيز الحد الأقصى من فرص العمل واستقرار التضخم، وتوجيه تكلفة المال –أسعار الفائدة– بصورة تدفع المواطنين إلى الادخار في الأوقات الجيدة والإنفاق في الاضطرابات الاقتصادية.

ومن ثم صارت للبنك أدوار أبعد من الإدارة الاقتصادية في لحظات الأزمات المالية، أبرزها مقرض الملاذ الأخير، ومعالجة ديون الحكومة، والحفاظ على القدرة الشرائية للدولار، والتنظيم والإشراف على الشركات المصرفية القابضة في الولايات المتحدة الأمريكية ومراقبة الاستقرار المالي وإدارة العرض النقدي ونظام المدفوعات الأساسية في البلاد.

أزمة “كورونا”

بحسب مقال الباحث فقد جاءت جائحة “كورونا” لتؤثر في النظام المالي العالمي منذ منتصف مارس 2020، وكذلك الاقتصاد الأمريكي؛ إذ تراجعت أسواق الأسهم، وهو ما انعكس سلباً على مدخرات الأسر الأمريكية، ما أدى إلى انخفاض صافي الثروة بنسبة 5.5% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020. وهذا الأمر في حالة استمراره سوف يؤثر في سوق الخزانة؛ ما يدفع حكومة الولايات المتحدة إلى رفع الضرائب لتسديد التزاماتها، ومن ثّم فإن هذه المعطيات قد توقف التداول في أسواق الخزانة.

واستجاب الاحتياطي الفدرالي لهذه الأزمة باتباع السياسات الممكنة للحد من آثارها، إذ قدم دفعات من التمويل للشركات المختلفة، مع تسريع عمليات شراء السندات المخطط لها، والعمل على تمويل الديون التجارية كوسيلة لم تكن متبعة داخل هذا البنك؛ مع خفض تكاليف الاقتراض على المدى القصير إلى الصفر للحفاظ على الاقتراض رخيصاً قدر الإمكان، وذلك في إطار معالجة أبعاد وتأثيرات فيروس “كورونا” في التجارة.

وبذلك فقد تشابك الدور الرئيسي لبنك الاحتياطي الفدرالي بين الحفاظ على سوق الخزانة وتسيير التجارة وكذلك دعم الاستثمار؛ لذا فقد اعتمد على التدخل الهائل في سوق السندات إلى جانب الدعم المستمر لبرامج تقديم الائتمان الجديدة، بما يحقق وضعاً أكثر استقراراً للمستثمرين، وتجنب الانهيار على مستوى النظام المالي بأكمله، والحفاظ على قوة الدولار لما له من وضعية خاصة في الاقتصاد والأسواق العالمية.

ولعل متطلبات مواجهة الآثار الاقتصادية والمالية لجائحة “كورونا” تفرض أهمية التوسع والتمكين والتأييد من جانب الكونغرس والحكومة، لما يتخذه البنك الاحتياطي الفدرالي من إجراءات وحزمة سياسات نقدية ومالية، إذ تتوقف قدرته على ما إذا كانت لديه القوة لجعل حزمة السياسة المالية والنقدية الأوسع فعالة، وما إذا كانت الحكومة الأوسع ستعزز جهود الإنقاذ الاقتصادي المناسبة الخاصة بها. ومع فشل الكونغرس في التوصل حينها إلى خطة واضحة لإنقاذ القطاع الخاص، وقد جعل ذلك إنقاذ الشركات متوسطة الحجم يقع على عاتق مجلس الاحتياطي الفدرالي عبر شراء أكبر قدر من الديون المدعومة من الحكومة حسب الحاجة، لاستعادة الوظيفة لأسواق الخزانة المعطلة والسندات المدعومة بالرهن العقاري.

The post كيف أعادت أزمة "كورونا" الاعتبار لمكانة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي؟ appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/exHR7k3

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire