قال إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، إن “اقتصادات القرن الواحد والعشرين دخلت مرحلة نوعية سمتها البارزة التقادم السريع للمعارف والمهارات والمهن، زادت من تعقدها الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي”، متسائلا في مقال له عن “أية تكوينات في ظل العالم الجديد؟”.
وتناول الكراوي الموضوع من خلال التفصيل في 5 محاور وتوجيهات أساسية، تتمثل في “التكوين مدى الحياة”، و”التكوين على تنويع التخصصات والمهن”، و”التكوين حسب حاجيات الفاعلين الجدد في النمو”، و”التكوين المندمج والشامل”، و”التكوين على الأبعاد الدولية للفعل الاقتصادي”.
هذا نص المقال:
لقد أدى التطور السريع والمذهل للثورة ما بعد الصناعية إلى طرح تحديات جديدة على جميع الاقتصادات الوطنية، محتما عليها إعادة دائمة لبنياتها الإنتاجية ولمنظوماتها الوطنية للتكوين والابتكار. ومرد هذا الواقع إلى دخول اقتصادات القرن الواحد والعشرين مرحلة نوعية سمتها البارزة التقادم السريع للمعارف والمهارات والمهن، زادت من تعقدها الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي من جهة، ومن جهة أخرى دخول كل الدول والتجمعات الإقليمية مرحلة البحث عن سيادتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية من خلال الاستثمار الأمثل للنبوغ والذكاء الجماعي لفاعلياتها وقواها الحية.
وتفرض هذه الحقائق إنجاز تغييرات في استراتيجيات التكوين رؤوس أقلامها خمسة توجهات أساسية.
التكوين مدى الحياة
تعيش المقاولات والدول والتجمعات الإقليمية الكبرى والمجالات الترابية في مختلف بقاع العالم على إيقاع تنافس حاد، يصبح معه التكوين مدى الحياة ضرورة لا مندوحة عنها. غير أن التكوين مدى الحياة يجب ألا يقتصر على المقاولات، بل يتعين أن تستفيد منه أيضا البنوك وشركات التأمين والمكونون أنفسهم، والإدارات العامة للدولة، والمنظمات النقابية، والأحزاب السياسية، ومجموع مكونات المجتمع المدني، وذلك من خلال اعتماد استراتيجيات تقوم على إعادة هيكلة دائمة ومتجددة تروم التحديث الشامل للاقتصاد والمجتمع. ولئن كان تأهيل الرأسمال البشري مطمحا يجب أن يستفيد من ثماره الجميع، فإن التكوين مدى الحياة يجب أن يكون قضية كل الفاعلين وقاعدة دائمة في مجال تدبير وتسيير وحكامة كافة مناحي الاقتصاد والمجتمع.
التكوين على تنويع التخصصات والمهن
تتطور الأنشطة الاقتصادية والمهن المرتبطة بها في سياق تنظيمي وتكنولوجي يميزه اتجاهان يفرضان نفسيهما اليوم كخيار وحيد. فالعمل المأجور، من جهة أولى، الذي ساد في مجتمعات القرنين التاسع عشر والعشرين، يبدو أنه يتراجع لصالح أشكال تشغيل جديدة، على رأسها العمل الموسمي والعمل العرضي والعمل بناء على عقد محدد والعمل عن بعد والعمل في مقر الإقامة والمقاولات الافتراضية والتشغيل الذاتي.
وإذا كان التشغيل التام والكامل، من جهة ثانية، قد أصبح هدفا صعب التحقيق بسبب التطور التكنولوجي الذي جعل الأنظمة الإنتاجية قادرة على الإنتاج بوفرة أكبر وبجودة أعلى وبكلفة أقل وباحترام أكبر للمعايير البيئية، لكن بحجم من اليد العاملة أقل فأقل، مهما كانت طبيعتها، متخصصة أم لا، فإن الارتباط بين التشغيل والنمو لم يعد خاضعا لسببية ميكانيكية. لهذا، فإن أكثر الاقتصاديات نجاعة هي تلك التي طورت مجموعة من التكوينات القائمة على مبادئ المرونة والحركية الجغرافية والقطاعية عبر التشاور والحوار والتفاوض بين الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين. ويكمن الهدف الأساسي من اعتماد هذه المقاربة في الرفع من قابلية تشغيل الأشخاص النشطين الباحثين عن أول منصب شغل وأولئك الذين يعيشون في وضعية بطالة، فضلا عن التحكم الجماعي في التحولات التي تعرفها الأسواق الوطنية للتشغيل بفعل أنماط الإنتاج والتبادل الوليدة لمتطلبات الثورة ما بعد الصناعية.
التكوين حسب حاجيات الفاعلين الجدد في النمو
ازداد اليوم الطلب على التكوين وتنوعت أشكاله. فإضافة إلى الطلب الصادر عن المقاولات والبنوك، هناك أيضا الطلب الذي يعبر عنه فاعلون جدد في العملية التنموية كالجماعات الترابية والإدارات المركزية والمنظمات السوسيو-مهنية والمنظمات غير الحكومية المنبثقة من المجتمع المدني، وبخاصة تلك النشطة في مجالات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. لهذا، فإذا كان من اللازم أن تنبني الاستراتيجيات المستقبلية للتكوين على الإنصات والاستجابة لحاجيات هؤلاء الفاعلين، فإن عليها أيضا أن تنفتح على مسالك جديدة للتكوين المهني. وهذا المنظور هو الذي سيمكن أي اقتصاد ومجتمع من تنمية قدرات كل مكوناته عن طريق الرفع من مستوى كفاءاتها، مما يجعلها قادرة على مد كل قواها الحية بأفضل المهارات والكفاءات والمعارف في مجال تدبير الموارد البشرية ضمانا للرفع من تنافسيتها وأدائها العام.
التكوين المندمج والشامل
نلاحظ أن مهام أنظمة التكوين ما تنفك تتسع لتشمل أبعادا عدة أصبحت ضرورية في عملية التربية والتكوين. تشمل هذه الأبعاد أولا إنتاج معرفة متوافقة مع الوظيفة التقليدية للتربية والتكوين، ثانيا إنتاج مهارات مطابقة لمستلزمات مَهْنَنَة النظام التربوي، ثالثا إنتاج معرفة تساهم في التكوين على المواطنة، رابعا التكوين على الإبداع والابتكار عبر إنتاج النبوغ والذكاء واليقظة الاستراتيجية الضرورية لإنتاج الثروة، خامسا وأخيرا التكوين على إنتاج الرابط الاجتماعي والتربية على التماسك المجتمعي الضروريين لتوفير شروط العيش المشترك. ويفرض هذا البعد المندمج والشامل الانتقال من مفهوم التكوين إلى مفهوم مبني على تنمية الرأسمال البشري.
التكوين على الأبعاد الدولية للفعل الاقتصادي
ولَّدت “شملنة” القضايا الاقتصادية وعولمة التكنولوجيات في قلب الأنظمة الإنتاجية الوطنية دينامية تمكن من إدماج تدبير الإكراهات الخارجية والأبعاد الدولية المرتبطة بها داخل مجزوءات التكوين. وقد أتاحت هذه الدينامية إمكانية تحديد استراتيجيات جديدة للنهوض بالتكوين ترتكز أساسا على التمكن من اللغات الأجنبية، وتطوير برامج قارة للترجمة، وتملك وتوطين التكنولوجيات الرقمية وتلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، والتشجيع على الابتكار والتجريب، وتنويع مسالك التكوين، والاستقلالية في التدبير وتعزيز مشاركة الفاعلين المباشرين في التكوين من خلال التنويع في أشكال التنظيم المبتكرة، والاستغلال الأمثل للإمكانات التي تتيحها الشراكات الدولية في مجال التكوين عن طريق تطوير العمل عبر التشبيك التعاوني العالمي، فضلا عن إضفاء بعد ترابي على عمليات التكوين.
ولا شك أن توفر هذه الشروط سيمكن أنظمة التكوين مستقبلا من الانخراط الفاعل في سيرورة التطورات التي يعرفها العالم الجديد والتحولات الهائلة التي تفرزها هذه التطورات على صعيد أنظمته الإنتاجية، كما سيزودها بالعدة اللازمة لكسب رهان التنافسية الحادة في خضم وقائع اقتصادية تزداد تعقيدا واللا-استقرارا.
The post الكراوي يُقَيم التكوينات في زمن العالم الجديد.. مهارات وذكاء اصطناعي appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/7IN2p6d
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire