نظرة علمية في عدد من مواقع فجر التاريخ المغربي، قدمها عالم الآثار عبد الواحد بنصر في دراسة نشرتها مجلة وزارة الثقافة “الفنون”، تهتم بما تخبر به هذه الآثار حول إشكاليات “الاستقرار البشري، وتنقله من وإلى المغرب، صوب إفريقيا وأوروبا وآسيا، والمبادلات عبر البحر الأبيض المتوسط”.
وحول مواقع “الفن الصخري”، كتب المدير السابق لمدرسة علوم الآثار والتراث بالرباط أنها “مجالات شاسعة، أطلق فيها سكان فجر التاريخ العنان لخيالهم، وتركوا لنا آثارا خالدة على شكل نقوش ورسومات موزعة على الجبال والمناطق الصحراوية”، ومنها موقع اوكايمدن بعمالة الحوز، واسنكَارن بطاطا.
وذكر أن موقع أوكايمدن يضم “أحد أهم مواقع الفن الصخري بشمال إفريقيا، إذ ترك فيه المنتجعون خلال فترات ما قبل التاريخ آثارا خالدة لتنقلاتهم الموسمية، تظهر للعيان على شكل فن تصويري أو تقريبي منقوش على ألواح صخرية تجسد حيوانات برية، مثل السنوريات، والظباء، ووحيد القرن، والنعامة، وغيرها، وحيوانات أليفة مثل الأبقار، والماعز، والكلاب، والفرس، وأشكالا بشرية، وأسلحة مثل الخناجر والرماح والفؤوس والسيوف والأدرع”.
أما ايسنكَارن، فوصفه بنصر بـ”المركب الهام للفن الصخري”، وعلق قائلا: “التقنية المستعملة في إنجاز الرسوم هي النقر السطحي في غالب الأحيان، مما يعطي زنجرة تامة ونادرا ما تكون فاتحة. وتمثل في أغلبها بقريات ذات هيئات مختلفة، ولكنها شبيهة برسوم البقريات الكلاسيكية المعتادة”، مع وجود “بعض رسوم الخنزير البري التي تمثل اكتشافا هاما، على اعتبار أن عدد نقوش هذا الحيوان على الصخور لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة على صعيد كل مناطق البلاد المغاربية”.
وحول الآثار الميغاليتية، كتب بنصر أنها تتجلى في “مآثر جنائزية من نوع التومولوس المسماة أيضا بالجثوة”، ومن بينها جثوات مومولوسات، التي قال حولها إن المدافن التي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام “تنتشر بكثرة في التخوم الصحراوية للمغرب”.
وأضاف أنها “تتشابه من حيث مظهرها الخارجي؛ فهو ركام من الحجارة على شكل مخروط، أو مخروط مقطوع، يغطي بنيات داخلية متنوعة”، وتخفي بعضها “غرفة دفن محفورة بالكامل، في أرض جوانبها مكونة من كتل صخرية موضوعة بشكل عمودي، وغطاؤها مشكل من عدة طبقات من الحجارة”.
وتابع: “بمنطقة التاوز بتافيلالت، هناك نوع من المآثر الجنائزية التي ترمز إلى تلاقح ثقافتين: إحداهما من الجنوب والأخرى من الشمال، يتعلق الأمر بتومولوسات مزودة بقاعات عبادة على شكل صليب، أما شكل الصليب فيبدو أن له علاقة بالمغرب الشمالي، وقد يكون نتيجة لتأثير مسيحي”.
وواصل: “يبدو أن هذه المآثر تعود إلى فترات متأخرة، وإن كانت ما تزال محافظة على بعض الطقوس ذات الطابع القديم، كنزع اللحم عن العظام الذي يسبق عملية الدفن النهائية. تصميم قاعة العبادة على شكل صليب، بالإضافة إلى معطيات مختلفة تشجع على افتراض أن هذه المآثر هي من مخلَّفات جماعات تعتنق الديانة المسيحية. فالأمازيغ الذين اعتنقوا هذا الدين منذ فترة قصيرة، تبنوا شعار ديانتهم الجديدة، مع الاستمرار في دفن موتاهم تبعا لعادات أسلافهم”.
أما كرومليك مزّورة بأصيلة، فكتب حوله عالم الآثار أن صرح مزورة، على ما يبدو، قد “عرف حفريات منذ القديم على يد الجنرال ورجل الدولة الروماني كينتوس سيرتوريوس الذي رأى فيه ضريح العملاق انتي، الملك الأسطوري لليبيا الشمالية الغربية، المقتول على يد هرقل. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1935 و1936 أنجز فيه س. دي مونتالبان حفريات كارثية. فقد أدت الأخاديد الضخمة التي أنجزها إلى تشويه الموقع بشكل كامل، ويبدو أنه كان محبطا بسبب النتائج المحصلة، لذا لم يكلف نفسه، للأسف، عناء نشر تقرير عن أبحاثه”.
هكذا، كان لزاما على الباحثين “انتظار أبحاث ميكيل تاراديل الذي سمحت دراساته بالحصول على نظرة كاملة عما تبقى من هذا الصرح”.
وذكر عالم الأركيولوجيا أنه “تبعا للوضعية الحالية للبحث العلمي، تبقى الربوة المحاطة بالأعمدة الصخرية في مزّورة حالة فريدة في شمال إفريقيا، وتعتبر مسألة تأريخها مشكلا حقيقيا في ظل انعدام تقارير عن الحفريات التي أجريت فيها من قبل، فلا نتوفر على أية معطيات عن اللقى الجنائزية التي وُجدت فيها (…) يحمل صرح مزورة تأثيرات قادمة من المحيط الأطلسي. ويبدو أنه كان موجها نحو الغرب، كما قد يفهم ذلك من وضعية العمودين الكبيرين. يبقى هذا الاتجاه نادرا، بل ومنعدما، في المآثر الجنائزية المغربية لفترة فجر التاريخ، إذ يبدو أن المدافن كانت توجه في هذه الفترة نحو الشرق أو نحو الجنوب الشرقي”.
أما مقبرة فم لارجام بالمحاميد، فكتب عنها بنصر قائلا: “قد أحصي فيها أكثر من 5000 مدفن، تعود كلها لفترة فجر التاريخ”، وافترض الباحث أن كوة المقابر موجهة إلى الجنوب الشرقي على السفح الموجه نحو أشعة الشمس حتى “تتسلل أشعة الشمس إلى داخل المدفن، مما يسهل جفاف الجثمان بسرعة وتجنب سلبيات التحلل”، ثم استدرك قائلا: “لكن، يبدو أن الكوة مرتبطة بممارسة طقوسية خاصة”.
ثم أضاف: “يمكن تقديم افتراض آخر لتفسير العلاقة بين الكوة والبنية الملحقة. ففوق البنية المستطيلة، كانت تشعل النار لإطلاق الدخان ليلج المدفن عبر الفتحة، وتسمح الكوة لدخان المحرقة بالتسلل إلى غرفة الدفن وتطهير روح الميت”.
وزاد: “هذا الطقس غريب عن العالم الإفريقي والأمازيغي، وقد يكون مستمدا من فتحات التدخين الطقوسي التي عرفت في مدافن الشرق عند الساميين”، كما افترض أن يرتبط “التوغل العميق لمجموع هذه العناصر التي تحمل تأثيرا مشرقيا في المناطق الداخلية للمغرب بمجموعات إثنية/دينية معزولة، توزعت في محطات، على طول طريق تجارية، بحثا عن الذهب وباقي مواد التجارة القرطاجية”.
The post رسوم وطقوس وهجرات .. عالم الآثار بنصر يُنطق آثار "فجر التاريخ" بالمغرب appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/LXSiZfw
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire