ديباجة
عندما نقرأ مسرحية أو فيلما من المنظور الجمالي النقدي، فإن الأهم على الإطلاق، بل والمحدد لمشروعية النقد ذاته وللعمل الإبداعي أيضا، هو النظر إلى هذا العمل كنسق جمالي، يفترَضُ فيه التكامل بين كل مكوناته، وتضافُرُ عناصره في حمل تلك الجماليات المبهرة، الممتعة والدالة أيضا على المعنى الرصين والملائم، وعلى الشكل المبهر وعلى القيم الكونية النبيلة. في هذا السياق لا يكون النقد سوى واحد وأوحد، وما غير ذلك لا يدخل في سياق النقد بتاتا وتحت أي تصنيف أو تقطيعٍ لأوصال النقد لتدجينه.
“النورس” بين الضعيف تشيكوف
من الفرجات المسرحية المشاركة في المهرجان الوطني للمسرح بتطوان لهذه السنة، 2022، تهمنا مسرحية “النورس” لمؤلفها ومخرجها بوسلهام الضعيف، لفرقة “الشامات” وهي الفرقة التي نجحت في الاستمرار لربع قرن، منتجة لأعمال متنوعة لها مكانتها في المشهد المسرحي المغربي والعربي.
الواقع أن الباعث على الكتابة عن مسرحية “النورس”، هو قدرتها على إثارة الجدل في ذهن كل متفرج نبيه ومتآلف مع الجماليات في تعددها وتنوعها السمعي والبصري والدلالي، كما يتطلبها العرض المسرحي في أصله وأساسه، وبغض النظر عن تنوع الأساليب والمدارس والحساسيات.
تعود قيمة مسرحية النورس فقط إلى اقتباس المسرحية -مغربتها! حسب تصريحات وكتابات منوهة بمسرحيتنا هذه- أو كتابتها بموازاة مسرحية أنطوان تشيكوف تحت العنوان نفسه. تتحدث مسرحية تشيكوف المقتبسة منها مسرحية فرقة الشامات، عن هموم ومعاناة ودلالات حياة الفنان المبدِع خلال نهاية القرن 19، لكن بطابع كوني نابع من البعد الفلسفي للمعالجة المسرحية “التشيكوفية”، بل ترجع أهمية مسرحية “النورس” إلى إقدام كاتبها ومخرجها بوسلهام الضعيف، على رفع سقف رهان بناء فرجة متميزة ومنسقةِ الجماليات بين المسموع والمرئي، من خلال المراهنة على تركيبٍ محفوفٍ بخطرِ السُّقوط في الهجانة، نظرا لاشتغاله على نص مسرحي رفيع وعميق من جهة، ونظرا لتوظيفه لتقنيات حديثة نسبيا تتطلب التوفيق في جعلها منتجة للمعنى وليست مجرد ستاتيكية أو توضيحية في أحسن الأحوال. نتحدث هنا عن كل عناصر بناء العرض السينوغرافية.
محدودية “المغرَبة”
إن “مغْرَبَةَ” نصٍّ معروف ورفيع، من خلال التصرف فيه حذفا وتلخيصا واختزالا على كل مستويات بناء الفرجة، وموازاته بإضافات دارِجَةٍ قصد إنجازٍ ملموسٍ “لمغْرَبةٍ”، دون رفع مستوى المضمون الفكري لهذه المغربة/التدريج، (من الدارجة)، بما يوازي الطروحات التشيكوفية الفلسفية العميقة، لهي مغربةٌ مجازِفة بالسّقوط في فخ تنافر وثغرات ومطبات في العرض من الناحية الجمالية بالمعنى النسقي للكلمة.
يتعلق الأمر في مسرحية “النورس” بموضوع وجودي يطرح “فينومينولوجية” فعل الكتابة في ما وراء البعدين الاجتماعي والنفسي، والفردي الشخصي والتشخيصي. وهو موضوع حي ودينامي، يتطلب تشكيلا في صيغة جمالية حية وقوية على مستوى ترصيص الفرجة، وتشكيل جمالياتها على الخشبة، بما يلائم محمول الحالات ووجع البَوح ونسيج المعاني التي يحملها الفنان المبدع في سياق مساءلة الذات في خريف العمر ونضج الإدراك الوجودي لمفارقة الحياة في مواجهة صنوها الموت.
نورس مستعصي الجمالية
لنلق نظرة على المسرحية متناسين الخلفيات التي متحت منها، ومعتبرين لما نراه على الخشبة ونسمعه كبنية مغلقة، متسائلين عن نسقيتها الجمالية في ذاتها بالمعنى الكانطي للكلمة.
يظهر العرض منذ بداياته –بإيقاع بطيء!– رافعا سقف طموح بناء الفرجة لما بعد كلاسيكية الحكي المسرحي وقواعده التقليدية المألوفة: لا زمان ولا مكان ولا شخصيات مُسماة ولا نص درامي ينمو بحبكة وبمسار سردي قابل للتلقي، تاركا للمتفرج المؤهل حرية توظيف المرجعية التشيكوفية لملء الفراغات التي قد تظهر له في العرض كما هو قائم فيزيائيا. ومع استهلاك زمن الفرجة نحاول عبثا الإمساك بموضوع ما فلا نفلح، فهناك حديث عن كل شيء من قلق الكتابة حتى بؤس العيش وهوس الشهرة والشك في الذات وتحدي بياض الورقة عند مجابهة “وجع الإبداع”. ذوات تتحاور في قلب ذات عامة وجودية الهموم، تتناسخ وتنتقل عبر الكائن اللغوي بين مستويات حساسياتِ تعبيرٍ، لا جسور بينها من العربية الفصحى المترجَمة إلى الدارِجة الحسية مرورا بفرنسية تحاول التحذلق. يصبح النورس عندها فرجة تحفر في مورفولوجيتها أصواتُ الممثلين الأربعة، قوة ووضوحا وحملا للوجدان وللانفعالات، بشكل دال على “هشاشة” البنية الجمالية وتناسقها كما حاول المؤلف المخرج بوسلهام الضعيف “ترصيصها” قطعة قطعة، بمجهود واضح وبطموح صعب المنال جماليا.
نتحول بعد ذلك كمتفرجين باحثين عن متعة زواج الجمال والمعنى، إلى التقاط شذرات فلسفية -عفوا مُتفلسِفة وشتان ما بينهما من مساحات- متجاورة تُرصِّص معنى نستمتع به، فيعوقنا التكرار والإطناب في المضمون الفكري المسوق عبر الحوارات، كما تمنعنا الفجوات النوعية بين تشخيص الممثلين الأربع-الشخصيتان، وتقف في وجهنا ستاتيكية الديكورات الممتنعة عن المشاركة فيه، والتي زهد المخرج-المؤلف في توظيفها في ما ليس تقليديا كخيال الظل والكتابة المرافقة الاعتيادية والتوضيحية في تكرار نص حوارات. يتعلق الأمر بفرجة حبلى بالكثير من الادعاء المتفلسف والتكرار الدلالي، وإن لبِست وتسلحت بمقاطع فكرية وشعرية مألوفة ونمطية.
إلهام سينمائي؟
يبدو لنا أن مسرحية النورس لبوسلهام الضعيف افتتان واسترجاع شخصي -لربما غير مقصود- لفيلم السينمائي السويسري الفرنسي Jean Luck Godar “The image box”، كـ”كولاج” وتركيب لصور لن يرى الرابط الجمالي والفكري بينها إلا من يستوعب هاجس الإبداع، وشمولية استيعاب سريرة الفنان لوجع الوجود ولفتنته الحارقة اللذيذة في الوقت نفسه، لكن جان لوك غودار حمل هذا الفيلم في سريرته تركيبا لعشاريات طويلة من الإبداع، وتتويجا لأسلوب ولمدرسة تحدت الهيمنة الثقافية والمرجعية المركزية للثقافة العابرة الغربية، ممثلة، على سبيل المثال لا الحصر، بهوليوود وبوليوود والميلودراما، بالتجريب الألماني والواقعية الإيطالية… من خلال جعل المؤلف-المبدع، محور الفعل السينمائي، منتزعا الاعتراف من عالم السينما في كليته وبكل سطوته وجبروته الميركنتيلي المتجَدِّد.
The post مسرحية "النورس" لبوسلهام الضعيف .. جماليات مستعصية في نسِيج مَغربة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/pNJaozn
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire