طفت إلى واجهة الأحداث، في الآونة الأخيرة، ظاهرة هروب فتيات قاصرات من بيوت أسرهن نحو وجهات لا تعرف إلا لاحقا؛ وهي ظاهرة تترسخ غالبا في أذهان قاصرات يعشن في مناطق تنخرها الهشاشة وينحدرن من أسر تعاني الفقر والعوز وظروفا اجتماعية قاهرة، يتركن أسرهن ومدارسهن دون اكتراث بالوقع النفسي لهذا الهروب على أسرهن التي تدخل في دوامة من البحث عن مكان وجودهن أو على الأقل عن خبر كونهن على قيد الحياة.
ففي إقليم اشتوكة آيت باها، قررت ثلاث تلميذات من منطقة آيت اعميرة، دفعة واحدة، الهروب صوب الصويرة والدار البيضاء، دون علم أسرهن، بعد خلافات أسرية، حسب ما صرحن به لدى الضابطة القضائية المكلفة بالتحقيق في ملف اختفائهن وإرجاعهن بعد ذلك.
كما رجعت تلميذة أخرى بعد أزيد من 20 يوما من الاختفاء، إلى جانب حالات أخرى تم تسجيلها سابقا يبقى القاسم المشترك بينها هو الانتماء إلى أسر معوزة وهشة واضمحلال فرضية الاختطاف.
وحول أسباب هذه الظاهرة، اعتبر الدكتور المصطفى السعليتي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة القاضي عياض بمراكش، ضمن تصريح لهسبريس، أنه يمكن التمييز بين الأسباب المشتركة والأسباب الخاصة بكل قاصر، إذ “يمكن تفسير ذلك بالهوة الكبيرة بين الواقع الأسري ورغبات القاصرات، هؤلاء أضحت لديهن رغبات وحاجيات لا تستطيع الأسر المعوزة تلبيتها؛ فالحرمان عامل أساسي يؤدي إلى الهروب، خاصة عندما تتمكن القاصرات من المقارنة بين الحياة خارج الأسرة عند البعض وبين حياتهن مع الأسر، فلم تستطع الأسر تعويض الحرمان المقترن غالبا بالعنف اللفظي والجسدي والحياة الروتينية المملة”.
وأضاف المتحدث ذاته: “كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما في الانفتاح على الواقع الافتراضي المليء بالإغراءات مع المستوى النفسي، تعيش القاصرات في الملل وفقدان الأمل، خاصة عندما يغادرن المدرسة أو بدون تمدرس”.
وأوضح الأستاذ الجامعي أن “الهروب مغامرة لها معنى، أي التخلص من القيود ومن الموت الاجتماعي ومن البرود العاطفي داخل الأسر والفقر، ويعني كذلك بدء تجارب أخرى يغلب عليها التفاؤل الوهمي والحلم بأشياء من الصعوبة تحقيقها؛ لكن الواقعية تغيب عندهن حينما يهيمن منطق الرغبة في الهروب الفردي والذي يتم تشجيعه غالبا بالقرار الجماعي وبتأثيرات قاصرات من نفس السلم والوضعية الاجتماعية”.
وعن الظاهرة وعلاقتها بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للفتيات، قال الأستاذ المتخصص في علم النفس الاجتماعي بجامعة القاضي عياض بمراكش إنه وكلما “كانت الهشاشة في جميع مستوياتها إلا وزادت الرغبة في الهروب، فليست هناك علاقة ميكانيكية بين الفقر والهروب، لوجود عوامل أخرى تمنع من الهروب رغم الفقر والهشاشة؛ فالرابط العاطفي ووجود العلاقات الإيجابية وقيم أخرى يحافظن عليها منذ التنشئة الاجتماعية الأولى؛ لكن، على العموم، تؤثر الوضعية المزرية أكثر عندما تكتسب الفتيات نظرة أخرى حول الحياة تختلف جذريا عن الحياة المفروضة عليهن”.
أما عن تأثير المحيط الخارجي، فأورد الأستاذ السليتي: “عندما تعيش القاصرات علاقات جديدة خارج البيت، وينفتحن عن العالم الافتراضي والواقعي، يتولد لديهن شعور بعدم الرضا والرغبة في الانتقام من الأسر التي لم تمنحهن الفرصة لتحقيق أحلامهن، إذ تصبح الأسر بالنسبة إليهن سجنا لا بد من التخلص منه. أما الواجب الأسري فهو عقاب له تأثيرات جد سلبية على حياتهن، ليكون الهروب أملا عندما يستعمله بعض هؤلاء الفتيات رأسمالهن الجسدي من أجل تحقيق الاستقلالية المادية والحرية مثلما يحلم الشباب في الهروب إلى عالم آخر، ما وراء البحار، لأن الجنة توجد في الضفة الأخرى، بزعمهم”.
وعن البنية النفسية والسيكولوجية للفتيات اللواتي يقدمن على خطوة الهروب بعيدا عن أسرهن، رغم عمرهن الصغير ورغم أن ذلك يشكل مغامرة غير محسوبة العواقب، فأوضح الدكتور المصطفى السعليتي أنه “يصعب تشخيص ذلك لما يقتضيه من دراسات ومقابلات إكلينيكية للحالات، “ولكن، على العموم، يمكن القول إن الفتيات تعشن نوعا الازدواجية، رغبة في التخلص من الوضعية المزرية ومن القيود والضغوطات الأسرية، وفي الوقت نفسه يخامرهن شعور بالذنب، لأنه ليس من السهل التخلي عن الأسرة وعن الماضي وعن كل شيء من أجل الهروب”، خالصا إلى: “إذن، فهذا التنافر الوجداني قد يؤدي إلى حالة نفسية يغلب عليها القلق ونوع من التشاؤم، وبالتالي فإن اتخاذ قرار الهروب وراءه عوامل نفسية؛ منها الإحباط والحرمان والشعور بغياب معنى وقيمة للحياة بالاستمرار في هذه الأسرة، إضافة إلى الحرمان المادي، فيتم التفكير في الهروب دون التفكير في المخاطر والعواقب، لأن الحالة النفسية تسعى فقط إلى التخلص من السجن الأسري”.
واعتبر المتحدث، ضمن تصريحه لهسبريس، أن “الهروب يعد نوعا من الخلاص ويتم التخطيط له مسبقا بمجموعة من التمثلات حول المستقبل من أجل تغيير الحياة وتحقيق أمنيات رغم الصعوبات التي يمكن عيشها خارج الأسرة، فيفكرن في كون الهروب يجنب الانتحار والاكتئاب وأشياء أخرى لها تأثيرات سلبية قوية على المستوى الشخصي والعائلي”.
أما علاقة الظاهرة بالتنشئة الاجتماعية، فأضاف الأستاذ الجامعي أنه “يمكن ربط الهروب بفشل التربية؛ لكنها راجعة، إضافة إلى ذلك، إلى عوامل اقتصادية؛ كالفقر، الذي ينتج أيضا العنف بمختلف أنواعه. وأذكر أن تجربة الهروب تشجعها بعض التجارب الناجحة، خاصة إلى أوروبا؛ لكن هناك ما يسمى الإدراك الخاطئ للواقع، فالهروب، في كثير من الأحيان، يؤدي إلى الموت النفسي والاجتماعي”.
طيش شبابي، إذن، وعوامل نفسية، إلى جانب الأوضاع المعيشية المزرية والعوز والهشاشة والخلافات الأسرية، تجتمع إلى جانب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والرغبة في تغيير المستوى المعيشي والاضطرابات العاطفية في فترة المراهقة لتشكل جمرة في دواخل فتيات في مقتبل العمر تقذف بهن إلى عوالم الهروب وما يتلوه من أضرار نفسية ومادية وجسدية عليهن وعلى أسرهن، خلاص من سجن أسري إلى السقوط في سجون الحياة يتربص بهن داخلها شبح الاستغلال بكل ألوانه.
The post هروب فتيات من بيت الأسر.. انتقام من واقع مزر أم طيش شبابي؟ appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/5FqavjJ
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire