طه عدنان في "مونودراما دنيا" .. الذاكرة تجابه المآسي الإنسانية

صدرت مونودراما “دنيا” للشاعر المغربي طه عدنان، المقيم ببلجيكا، بلغتها الأصلية العربية، وسيتم تقديمها في المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط.

الأديب والناقد المقيم بهولندا مصطفى الحمداوي دبج ورقة مضيئة تجيد تقديم مونودراما “دنيا”، كما تجيد نقل هواجس وإشكالات هذا العمل للقارئ.

وهذا نص مقال الحمداوي كما توصلت به هسبريس:

مثل وميضٍ ضوء وسط قاعة عرض مُظلمة يعمُّها صمت جنائزي، يشتعل الضّوء بدرامية قوية، ثم ينطفئ فجأة تاركاً أثرًا لا يمّحي، قبل أن ينتبه المُشاهد إلى أنّ كل ذلك قد حدث بالفعل. لكنّ مفعول الأثر، في النظر وفي النفس، يظل قائما لزمن غير محدود. هكذا يشعر القارئ وهو ينتهي من قراءة مونودراما “دنيا” للكاتب طه عدنان، النص الماتع الذي يتيح لذّة القراءة، والدهشة أمام توالي اللوحات والأحداث، والتشويق طوال مشاهد النّص.

مونودراما “دنيا” بورتريه مسرحي لشابة من الجيل الثاني للهجرة أضاعت بوصلة الهوية. لكنها شخصية قوية، تتمتع برؤية حساسة ونظرة ثاقبة تُسائل بإلحاح وجودها المتأرجح بين أصل مغربي “إلى حدّ ما” وانتماء “بلجيكي تقريبا” كما نقرأ في كلمة الناشر على غلاف الكتاب الصادر حديثًا عن دار الفاصلة للنشر بطنجة: “تثور دنيا ضدّ وطأة الشعور بأنها نتيجة خطأ في الحساب وثمرة حمل غير مرغوب فيه. فهي آخر العنقود لأسرة مغربية مهاجرة تتكوّن من سبعة أبناء. وقد زاد من عزلتها صراعُها الثقافي والجيلي داخل أسرتها، وغيابُ الحوار مع والدَيْها”؛ غياب الحوار يدفع دنيا إلى الاعتراف في مونولوغ قوي ومؤثّر: “أن تعيش وسط أسرة غفيرة وتشعر بالوحدة، شيءٌ له طعم نكتة مريرة. منذ الصرخة الأولى، شعرتُ باليتم. كما لو ولدتني جدّتي. أما أمّي فلا وجود لها”.

يبدو أنّ هذا الإحساس بالإقصاء واليتم يؤثّر بشكل حاسم على علاقة دنيا بذاكرتها وعلى إحساسها العالي بالاغتراب: “تكفي غربتي أنا. لا أتقاسم معهما شيئا. لا لغة ولا ذاكرة. ذاكرتي هي الراهن بكل تقلّباته. لذا أستخفُّ بالماضي والجذور، ولا أهتمُّ بالمستقبل. أنا أعيش الحاضر بكل شغف. أُقْبِل على الحياة بشراهة. أفعل كما لو أترقّب ما قد يُطيح بهذه الأنوثة الفاجرة”.

في هذا النص الطّافح بالتوترات النفسية والصراعات الثقافية والأبعاد الفكرية، يقترح الكاتب طه عدنان على القارئ صيغة فريدة لقراءة الحدث، صيغة تحمل في طيّاتها الكثير من الابتكار والجِدّة من خلال عوالم مَهجريّة معقّدة وزاخرة بالدهشة وسحر الكتابة.

تباغتنا مونودراما “دنيا” بعناصر لا بدّ من استحضارها للولوج إلى عمق هذا النص الباذخ بشخوصه الاستثنائية، وعلى وجه التحديد البطلة الشابة دنيا. ويتجلّى، في تقديرنا، النجاح المذهل الذي تحقّق في النص، من خلال انتقاء الكاتب لشخصية دنيا لتكون بطلةً شبه مطلقة توازيًا مع شخوص أثّثت للمَشاهد وأعطتها وفرةً وزخمًا دراميًّا واضحًا.

كما تتّضح قدرة الكاتب المُبهرة في استثمار اسم “دنيا” بدقّة عالية، وبانتقاء متقن ومثقل بالرموز والدلالات لاسم البطلة، ثمّ معناه الذي يقود إلى أكثر من تأويل. ولعل الحياة كفضاء عام وشامل تجري في شساعته كما في ضيقه كل الأحداث ذات الأثر البائن أو المستتر، أغدق تشويقًا وتدفّقًا جماليًّا على المسار السّلس في المونودراما. لقد هيّأ الكاتب للبطلة دنيا المحيط الاجتماعي والثقافي والنفسي الذي مكّن من إفراز شخصية البطل الإشكالي باعتباره النموذج الذي يدلُّ على وعي كُلّي بوجودٍ يخضع لبيئة اجتماعية واقتصادية وتاريخية، وهو المفهوم النظري الذي يطرحه جورج لوكاش في جدلياته النقدية والفلسفية.

ولفهم الأجواء العامة لمونودراما “دنيا”، يلفت الكاتب انتباهنا ببراعة إلى الصورة المعروضة كإشارة ركحية في مدخل النص: (تُضاءُ الخشبةُ على جثةٍ مسجّاةٍ بثوبٍ أبيض. إلى جانب الجثة هاتفٌ محمولٌ بكاميرا مفتوحةٍ تُصوّر ما يحدث من تفجير في محطّة مترو وسط أجواء من الهلع، لتبُثّه على شاشةٍ في عمق الخشبة. فيما تُسْمَع أبواق سيارات الشرطة والإسعاف. تصبحُ الشاشةُ مشوّشة. تخفت الإضاءة تدريجيًّا. تعرضُ الشاشةُ رسمًا بيانيًّا لجهاز دقّات القلب. مؤثرات صوتية ترافق الرسم البياني تعكس تَسارُع نبضات القلب. يتوقّف الجهاز. سكتة قلبية. تشويش. انطفاء الشاشة. صمت. ضوء خافت يُسلّط على الجسد المسجّى).

ورغم السكتة القلبية التي تصدمنا منذ البداية، والتّوقّف التام للجسد عن الحركةُ، فإن الذاكرة الحيّة، التي تختزن أحداثا شديدة الكثافة، تنبري لتختزل عمر دنيا بكلّ تفاصيل انكساراته وانتكاساته وندوبه. وفي غمرة خواء لا نهائي، تجد دنيا نفسها في تلك اللحظة الغامضة التي تشبه البرزخ الفاصل بين اليقظة والنوم، أو بين الحياة والموت، مُضطرّة كي تلعب دور البطولة ولو على مستوى الذاكرة، التي تتيح لها الإمكانية لتروي ما عاشتهُ من مآسٍ واختلالات جوهرية في حياتها المعطوبة. ومن تلك النقطة الغامضة الكامنة بين الحياة والموت، تجد دنيا لنفسها متّسعا لتروي قصتها من البداية إلى النهاية.

وما ترويه دنيا عن حياتها الخاصة وأسرارها، هو بالذات ما ينقله لنا طه عدنان الذي يبدو أنه تخصّص عمليًّا في كتابة المونودراما. هذا الفن الذي قد لا نعثر على الكثير ممّن يشتغلون عليه على مستوى التأليف، لأسباب منها صعوبة كتابة هذا الجنس المسرحي؛ الذي يعتمد على البوح دون السقوط في الهذيان والثرثرة، وعدم التفريق بين المونودراما والمونولوغ من جهة؛ وأيضا عدم الوعي بخصوصية المونودراما في مقابل باقي النصوص المسرحية الأخرى.

وبالعودة إلى مونودراما “دنيا”، نجد أن المؤلف اعتمد الذاكرة، كما أسلفنا، عنصرًا حاسمًا لتفجير الفعل والخطاب المونودرامي. وبهذا الصدد نستحضر تصنيف بول ريكور للذاكرة في مستوياتها الثلاثة: المستوى المرضي- العلاجي المتعلّق بالذاكرة المُعوّقَة، والمستوى العملي المتعلق بالذاكرة المُحرّفة والمتلاعَب بها، والمستوى الأخلاقي والسياسي.

فإذا تأمّلنا جيّدا هذا التصنيف الذي يضعهُ بول ريكور للذاكرة، سنجد أن ذاكرة دنيا المركّبة تحفل بجميع هذه التنويعات المتضاربة، وهذا التضارب يخلق من ذاكرتها مادة خصبة لتأجيج الصراعات الداخلية والخارجية التي استثمرها طه عدنان في نصه المونودرامي. يتبين من خلال قراءة الكتاب أنّ دنيا فتاة غير عادية، وعاشت حياة غير عادية؛ ولأنّها عاشت وتعايشت مع شخوص مختلفين ومواقف متباينة، فإن ذاكرتها أصبحت متخمة بالأحداث ذات الدلالات الحاسمة.

ومن هذا المنطلق نجدها تسأل وهي تحت وطأة تلك الحالة الغيبية التي تسبق الموت: “لماذا أنا ممدّدة في هذه المحطّة؟” (ص 6). قد يبدو السؤال مدخلًا للحكاية المونودرامية، ولكن لا بدّ للقارئ من أن ينتبه إلى أنّ محطّات دنيا متعدّدة وصاخبة وشقيّة وطافحة بالمعاناة. ولهذا يكتسي هذا التساؤل شرعية وجودية تتجاوز السؤال العادي عن سبب تمدُّد جسدٍ ما في محطّة ما من محطّات الحياة! يحدث هذا منذ “المحطّة الأخيرة”، وهو عنوان اللوحة الأولى للنص المونودرامي، حيث يتواصل السؤال المبدئي؛ الذي ينمّ عن عدم فهم كبير يفترض خيانةً للذاكرة الجماعية والفردية: “لا أدري فعلا ما الذي جئتُ أفعله في محطّة القيامة هذه؟!”.

يُدخلنا طه عدنان سريعًا إلى متاهة تفرض على القارئ أن ينتبه بشدّة كي لا تفوته أيّ جزئية قد تُضيِّع عليه الإمساك بالخيط الناظم الذي يربط أحداث المونودراما والمجزّأة على ثمانية عشر مشهدًا، لأنّنا نقرأ على لسان دنيا في الصفحة 10 وبأسى: “سأحكي حكايتي قبل أن أقول لكَ وداعًا أيّها العالم الأخرق، وإلى اللقاء في أبدية غامضة”.

هكذا تتحوّل الذاكرة من مجرد آلية لعدم النسيان، إلى آلية استذكار لحظاتٍ حاسمة، واستحضار للفوضى العارمة التي تنطوي عليها الحياة الدنيا بكلّ تناقضاتها واختلالاتها وعبثيتها المُدمِّرة. إنّ المقاربة التي اعتمدها طه عدنان في حبك هذه الملحمة المونودرامية توضّح بالملموس أنّ المؤلّف وهو يكتب نصه كان يدرك الإشكاليات الوجودية التي يُقحم القارئ في أتونها، إشكاليات غاية في الحدّة والتوتّر. تقول دنيا في الصفحة 8: “لستُ نادمة… فقط، إحساسٌ بالمرارة وأنا أغادر حياةً كانت تستحقّ أن تُعاش كما ينبغي، وليس كَمجرّد سوءِ تفاهمٍ وُجوديّ”.

قد تبدو القراءة الأوّلية للمونودراما، قراءة على صيغة إحاطة بِحَدث أو أحداث اجتماعية وسياسية وفكرية شديدة العمق. لكن واقع الحال أكثر من ذلك بكثير، لأن المؤلّف مقتنع- كما يتّضح من خلال قراءتنا للمونودراما – بالنسق المضمر للشخصية الدرامية، التي تنتج حدثًا يتناسل لينتج بدوره أحداثًا متتالية لا تنتهي إلا لِتُورّط القارئ في مطبّ أسئلة حارقة حول ماهية الوجود، وماذا يعني العيش وسط هويات وثقافات مُتوهَّمة لا تفرز سوى هوية مشوّهة وضائعة ومبعثرة بلا ملامح واضحة تجعلها أكثر قربًا للهوية الكونية.

وكي نكون أقرب إلى الحقيقة فإن هذه الكونية المفقودة لا تتحقّق- في رأينا- إلّا من خلال الهوية الفردية. وكتبرير لهذا الرأي الذي نرى أن أحداث المونودراما تعكسه على نحو واضح، هو ذلك الاضطراب والاغتراب الذي عاشته دنيا في حياتها على جميع المستويات، ومنذ المدرسة: “خلال الفسحة يتمُّ الفرزُ بشكل عفوي. مثل البهائم وهي تتفرّق في المزرعة: البيض- على ندرتهم – مع البيض، السود مع السود، العرب مع العرب، والأتراك مع الأتراك. لم أحبّ هذا أبدًا، كنت أفضّل التنقّل بين الألوان والأعراق. لديّ حساسية مفرطة من الانصهار ضمن بوتقة محدّدة” (ص 63).

إنّ ما يجعل من مونودراما “دنيا” نصا فريدًا وعميقًا يستقرئ الإشكاليات الإنسانية الكبرى، هي تلك اللمسة المضمخة بشتى تمظهرات الحياة العابثة والمأساوية في آن… الجنس، الخمر، الحشيش، الاغتصاب، الإرهاب، والتفكك الأسري والعائلي. ثم أخيرًا ذلك الضياع وسط دوّامة ما هو سياسي وديني واجتماعي. لكن بصوت أنثوي لشخصية تبالغ في لفت الانتباه لوجودها المثير مع رغبة كبيرة في أن تظلّ سيّدة قرارها: “أنا يعجبني أن أَفْتِن وأُثير، على أن أظلَّ سيّدةَ قراري… وأن تكون لي الكلمة الفصل: نعم أو لا.” وهنا يركِّز الكاتب كل طاقته ليُنجز نصا عميقا بنزوعه لاحتضان هموم كونية لا تقتصر على ما هو محلي صرف، بل يتجاوزُ النصُّ الموندرامي كلَّ ذلك لينحاز إلى ما هو إنساني، وليجعل القارئ أو المشاهد أينما وُجد في هذا العالم يشعر بمأساة دنيا وبضياعها، وبصراعها المضني لأجل أن تثبت أنها أنثى، وأنها لن تتحطّم من الداخل… وبهذا المعنى تقول لنا: “أنا ذنبُ الآخرين… وخطيئتي تكمن في وجودي” (ص 13).

لكن السؤال الضمني الذي يطرحه الكاتب في النص المونودرامي: هل استطاعت الضحية دنيا الهروب من مصيرها كضحية؟! وهنا لا بدّ من وقفة، لأنّ دنيا الضحية على مستويات عدة، قاومت بشراسة كي لا تكون ضحيةً لنفسها أوّلا، ويبدو أنّ السؤال الأساس يصل القارئ بسهولة وهو يتابع، بشغف، تطورات الأحداث المتسارعة في النص المونودرامي: إذا رغبتم عن حقّ في أن لا تكونوا ضحية في الحياة، ينبغي في المقابل أن لا تكونوا ضحايا لأنفسكم.

بعد الانتهاء من قراءة مونودراما “دنيا” لطه عدنان، سنظل مسكونين بسؤال ملحّ ومؤلم أيضا: ما جدوى الحياة عندما تجعل البعض منا يخسر نفسه أو كرامتهُ – مجازا أو حقيقة – في ظروف وضمن سياقات لم يكن للضحية دورٌ في صناعتها! قد تكمن الإجابة ضمن العدد الهائل من الإجابات، أو بالأحرى الأسئلة، التي تقترحها علينا مونودراما “دنيا”.

لكن، إلى أيّ حدّ نستطيع في كونيتنا وفي عولمة غير مُنصفة أن نتيح العدالة للإنسان ولخصوصية الفرد؟ إنها أسئلة حارقة تطارد القارئ لوقت طويل، وفي طيّات هذه الأسئلة الحارقة هناك وفرة جمالية يغدقها الكاتب في النص بمعادلة ماهرة. وقد تكون هذه واحدة من الأسباب التي ضمنت النجاح لهذا العمل المونودرامي المتقن في أوّل صدور له ككتاب بالفرنسية في مارس 2020 ببلجيكا، ومؤخّرا على إثر تقديمه بالمسرح القومي ببرشلونة باللغة الكتالانية. مونودراما “دنيا” سؤال يحمل قلقا وجوديا يرجّ ضمائرنا جميعًا. ويسائلنا بقسوة، ويجعلنا نواجه ذواتنا، سواء الفردية أو الجمعية، بكل تناقضاتها وهشاشتها.

وقد توفّق طه عدنان عبر “دنيا” في تكثيف حياة شخصية مركّبة ومتعدّدة في بيئة مهجرية ذات خصوصية. وقد استطاع الكاتب أن يقنعنا بأن هذا البورتريه يعكس رصدا لجوانب متناقضة من شخصية دنيا التي يصعب اختزالها في مجرّد ضحية. وحتى في المواقف التي بدت فيها فاعلة ومؤثرة في الأحداث، فإنها تظلّ إفرازًا لنسق ومسار حياة انتهت بشكل مبكّر وبطريقة مأساوية… إنّها ثمرة أنماط ثقافية وتقاليد مجتمعية تسايرها حينا وتثور عليها أحيانا… بسبب رفضها لأن تتحوّل إلى ضحية راضخة مستسلمة ولا تمتلك أيّ خيارات على الإطلاق! إنّها مثلما جاء على لسانها على إثر أوّل اصطدام قادها إلى مكتب الأمن: “انتهت القضية بأوّل محضر شرطة أكون فيه الضحية المظفّرة” (ص 73).

هذه الضحية المظفّرة مارست بطولتها عبر لوحات مسرحية وأحداث درامية تشدّ الأنفاس على امتداد حوالي 150 صفحة وهي تَقبل أن تلعب الدور كما جاء على لسانها في الصفحة 145: “ما عليّ الآن إلّا أن أقبل دور البطولة الناقصة في هذه الحلقة الطارئة من مسلسل حياتي الرتيبة. حياةٌ بلا مجد ولا بريق. سأتركها تنبح في إثري مثل جروٍ ضالّ”.

The post طه عدنان في "مونودراما دنيا" .. الذاكرة تجابه المآسي الإنسانية appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/J5wplm8

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire