تشتت الحوافز الخفية هو أن تكون للكاتب دوافع متعددة لكتابة مقال أو نحوه، يعبر عنها تنفيسا عن غضب ملتهب في صدره، ويُضمِرها خوفا من مواجهة مباشرة مع من يود أن يُدافع وينافس. فأسمي الكاتب الذي تشتّتَتْ حوافزه وأُضمِرت بـ”الكاتب الشارد” معرفا “الشرود” اصطلاحا بأنه “ذهول للوعي عن مقاصده”. مجمل كلامي في هذا المقال هو أن السيد بنسالم حميش أبان في مقاله، الذي عنوانه “بنسالم حميش يتساءل عن أوضاع “المثقفين الرافعين” للتنمية البشرية”، عن “شرود” في استدلالاته سببه أنه لم ينجح في ضبط إيقاع متوازن بين غضبه الشديد (الذي تفضحه كلماته كما سأبين) وبين قدراته العلمية المحدودة في الرد على خصومه ــ محدودية كشفت عنها الانتقادات الكثيرة التي حوصر بها في سياق محاولاته للتهجم على المكون الأمازيغي للثقافة المغربية. هذا بيان دعوانا في “شرود” حميش والدليل عليه.
سأبين، تحديدا، أن السيد حميش قد “شرد في مقاله بمقصدية التنظير لـ”الثقافة” و”المثقف” عن مقصده الحقيقي؛ وهو الدفاع عن “أناه” الجريحة بفعل ما تعرض له، في سياق تهجمه على الأمازيغية ومتعلقاتها، من انتقادات تشكك في استحقاقه للمقام الذي يضع فيه نفسه، أي مقام “المثقف المتبصر” الذي يستحق احترام قرائه.
رفع الشرود بذكر المقام
لفضح “الشرود” الذي سقط فيه حميش وإبراز معالمه، ينبغي أن نذكر معطى مقاميا مهما: وهو أن أصل المقال نفسه مداخلة قدمها حميش في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ــ جامعة القاضي عياض، في مفتتح الدورة الربيعية لسنة 2022 ـــ مداخلة (أُريد لها أن تكون “محاضرة افتتاحية”) دعاه إلى تقديمها بعض أصدقائه ممن يشاطرونه مصادراته الأيديولوجية (اليسارية سابقا، الحداثية حاليا، وغير المتعاطفة مع الأمازيغية ومتعلقاتها الهوياتية دائما) تكريما له، في سياق أصبح فيه الهَلِمّان الأكاديمي الذي ينسبه الرجل إلى نفسه موضع تساؤل جدي، خصوصا بعد أن فضح بعض الباحثين “الهلهلة” الاستدلالية في صورة دعاويه، والخواء المعرفي في مضمونها، و”الحَوَل الفكري” في استعماله للدليل في غير موضعه. ذاك مقام أكثر “مقال” حميش في المقال.
رفع الشرود بنقد المقاصد الموهومة
سأبين في يلي أن حميش قد “شرد” في التعبير عن مقاصده؛ لأن مقاله مشتت بين ثلاثة مقاصد حاول أن يجمع بينها ولم يوفق في ذلك. سأبين، على وجه التحديد، أن محاولته للجمع بين هاته المقاصد نتيجة لتورطه “الخِطابي” في سياق پوليميكي لا يمتلك قدرة معرفية على التعامل معه، وأن عدم توفقه في ذلك نتيجة لاستحالة اجتماع تلك المقاصد باعتبار أن المقصدين الأول والثاني مجرد “مقدمات” يلائم بهما حميش بين المقام الأصلي لكلامه، أي مداخلته في كلية الآداب. ومقصده الحقيقي الذي يشرد بالمقصدين الأولين الوهميين عنه هو، كما ذكرت، الدفاع عن “أناه” التي أحرقتها ألهبة النقد العلمي. فجملة منطوق كلامه أن “المثقف” الذي يرتضيه هو “مثقف أصيل” ينبغي أن يستوفي شروطا لا يستوفيها إلا القليل من الناس يوحي بأنه هو منهم.
والمقاصد الثلاثة التي “يشرد” حميش ببعضها عن بعضها الآخر هي:
1ـ مقصد “الدعوة إلى ثقافة رافعة للتنمية”
2ـ مقصد “الدعوة إلى ثقافة ابتكارية/إبداعية”
3ـ مقصد “الدفاع عن نموذج أصيل للمثقف”
قد تبدو هاته المقاصد الثلاثة متجاورة إلى درجة التداخل، ومتداخلة إلى درجة التطابق؛ ولكنها في حقيقتها متباينة من حيث طبيعة العلم الذي يدرسها (فـ”الثقافة”، مثلا، تدرسها الأنتروپولوجيا الثقافية، بينما “المثقف” تدرسه سوسيولوجيا المعرفة)، ومن حيث أسلوب تناولها (فالدعوة إلى “ثقافة ابتكارية/ إبداعية” هي دعوة إلى مطلب ديونتولوجي، بينما دراسة “نماذج المثقفين” مسعى إمبريقي لا يُبلَغ إلا بطرائق الاستدلال الاستقرائي)، ومن حيث مقدار المساحة التي يخصصها حميش لكل من هاته المواضيع في مقاله (فبينما لا يتحدث عن “الثقافة” سوى في الفقرة الأولى من مقاله، يخصص فقرات أخرى، عددها تسع، لموضوع “المثقف”).
سأبين في هذا المقال أنه، رغم ابتداء حميش لمقاله بالحديث عن الـ”الثقافة” و”المثقف” تبييئا لأصل مقاله مع مقام إلقائه (الجامعة)، فإن مقصده الحقيقي هو الدفاع عن نفسه وترسيخ الصورة الوهمية التي كان يرسمها لنفسه بصفته مثقفا غزير العلم يستحق ثقة قرائه.
رفع الشرود بنقد المقصد الأول
يستهل السيد حميش مقاله بالإشارة إلى ما يعتبره “أحد معايير التقدم”، أي الثقافة (دون أي تحديد لنوعية الثقافة التي يقصدها)، فيصفها بأنها “رافعة من بين رافعات التنمية البشرية” ويصرح بأن غايتها هي “التنافسية الابتكارية” و”ترقية الأذواق واللغات البشرية” والتخلص من “مسلكيات تبخيس الذات أو الضجر منها”. فينطلق بعد ذلك إلى رسم الآفاق الأعم لغايات “الثقافة” التي يقصدها، فيقول: “وهنا في هذه المقومات وما يجانسها تكمن الأفعال القوية لربح رهانات التطور النوعي والانتفاع بخيرات المدينية والحداثة وخدماتهما، أي رهانات الثقافة التنموية المطّردة”.
إذن، فـ”الثقافة” التي يبشر بها حميش هي “ثقافة” تساهم في التنمية البشرية وتحفز ثقافة الإبداع والابتكار وتلعب دورا في تمكين الإنسان من “الانتفاع بخيرات المدينية والحداثة وخدماتهما”؛ فهو لا يتحدث عن “الثقافة” بمعناها التأسيسي في الأنتروپولوجيا الثقافية، أي ذلك النظام الرمزي الذي يتشكل من مكونات مختلفة (كمؤسسات الزواج، والتعبير الرمزي، والمعتقدات، والصناعات الأهلية، وطقوس دفن الموتى، وطرائق إعداد الطعام، إلخ) والذي يتوارث من جيل إلى جيل (إدوارد تايلر 1871). بل يتحدث عن “الثقافة” التي تساهم بها “النخبة” (أو لنقل “الإنتيليجينسيا”) والتي قد تلعب دورا في “تطور النوع” و”ارتقائه” (راجع كتاب “Culture: The Emergence of a Concept” لصاحبه Marc Mangarano الذي استجمع فيه الكتابات المؤسسة لمفهوم “الثقافة” منذ بداية الألفية الثانية). وهذا ما سيتضح جليا إذا ينتقل من حديثه عن الثقافة في الفقرة الأولى من مقاله إلى الحديث عن “المثقف” في باقي فقراته.
لاحظ أن كلام حميش عن الثقافة لا يتجاوز فقرة واحدة وأنه لا يكلف نفسه عناء تعليل الانتقال من موضوع “الثقافة” إلى موضوع “الإنتليجينسيا”؛ فقد بدأ بالحديث عن “الثقافة” فقط ليُبَيِّئَ مداخلته مع مقام إلقائها (في جامعة القاضي عياض) وليمهد للحديث عن “المثقف”، وتحدث عن “المثقف” فقط ليدافع عن نفسه بصفته “مثقفا أصيلا” مستحقا لهذه الصفة: حميش لا تهمه “الثقافة” ولا تهمه “ثقافة الابتكار والإبداع” ولا تهمه “التنمية البشرية”، بل تهمه فقط صورته الاجتماعية كـ”مثقف ــ صورته الاجتماعية التي اهتزت مؤخرا بسبب/بفضل النقد الذي وجه إليه. ذاك شرود لوعي حميش عن مقصده الحقيقي: مقصد الدفاع عن صورته المهتزة.
رفع الشرود بنقد المقصد الثاني
على الرغم من أن السيد حميش لم يكتب ولو مقالا واحدا في حياته يدافع فيه عن “ثقافة الابتكار والإبداع”، ولم يبين في أيام تحمله للمسؤولية الوزارية عن اهتمامه بهذه الثقافة، فإنه أبدى في مقاله نوعا من التحمس لضرورة ترسيخ ما سماه بـ”التنافسية الابتكارية”، ووجوب الاعتناء بما سماه بـ”النوابض الإبداعية”، ليجمع بعد ذلك جمعا لا يبرره بين “حداثته” وثقافة الإبداع”، فيسمي هذا الخُلُط بـ”الحداثة النوعية والمبدعة”، وكأنما لا “إبداع” إلا في إطار إيديولوجيته “الحداثية” التي لست أدري ما هِيَهْ… ولا ينسى حميش أيضا أن يحذر “مُخاطَبه” من “نكوص في الإبداعية بيِّن” أصبح منتشرا بين الناس ينبغي أن يتحرروا منه لينتظموا في “تاريخ الإبداع الأغرِّ المكين” الذي يبدو من منطوق كلامه ومفهومه أنه يمتلك أسراره ومفاتيحه.
وإذا استحضرنا السياق الأصلي لمقال حميش (وهو كما قلنا مداخلة قدمها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض ــ مراكش) الذي طُلِب منه فيه أن يُدمج موضوع “الابتكار” إدماجا حتى يكون موضوع مداخلته منسجما مع “الهوية” الجديدة لـ”وزارة التعليم العالي” بصفتها وصية على “البحث العلمي والابتكار”، فإننا سندرك أن الرجل عمل ما في وسعه ليقنع “مخاطبه” بأنه إذ يتحدث عن “الثقافة” و”المثقف” فإنما يفعل ذلك لـ”يتعاون” مع الوزارة الجديدة في سعيها إلى ترسيخ ثقافة الابتكار والإبداع في بلدنا.
ولو كان حميش يمتلك ثقافة للإبداع والابتكار كما يحاول أن يوهمنا، لوجدنا له مقالات ومصنفات في الموضوع قبل أن يأتي السيد عبد اللطيف ميراوي والحكومة الحالية بوعيهم الجديد بضرورة إدماج ثقافة الابتكار في منظومة التعليم العالي؛ لكنك عندما تفحص ما كتبه حميش قبلا، ستجده لا يخرج عن صنف الرواية التاريخية التي تستمد مضامينها من التاريخ أكثر من قوة الخيال المبدع، ومقالات ينشرها هنا وهناك يتجرأ في بعضها على حسن أوريد، ويتهجم في الأخرى على أحمد عصيد، ويهمز ويلمز في معظمها على أكثر المواضيع إتلافا لأعصابه وهو “الأمازيغية” ـــ لم يسبق لحميش أن بحث في “الإبداع والابتكار”، ولم يسبق له أن كتب فيه، وليست له أي مساهمة تذكر في هذا الموضوع. لذلك، فأن ننتظر من حميش أن يُمدنا بـ”رؤية” للثقافة ترسخ ثقافة الابتكار والإبداع هو أشبه ما يكون بعابد أوثان يقيم طقوسا للاستسقاء في يوم حار من أيام فصل الصيف، يستمطر السماء في موسم ليس هو بموسم المطر والحرث ليُرحم بهطول بعض الغيث على أرض جدباء لا تصلح للحرث أصلا. فلا “آلهته” تنفعه، ولا “الطبيعة” تسعفه، ولا كيمياء الأرض تستجيب لما “يصلي” من أجله، أي المطر.
رفع الشرود بالتحقيق في المقصد الثالث
لنا في حديث حميش عن “المثقف” وما ينتظره مما سماه بـ”المثقف الأصيل” (في الفقرة السادسة من مقاله) خمس ملاحظات وهي:
أولاــ حميش يعتبر نفسه في موقف نظري يسمح له بأن يحكم على من يكون “مثقفا أصيلا” ومن لا يكون كذلك. لهذا، فهو يشير إلى نفسه بـ”نحن المثقفين والمفكرين”، ويمنح لنفسه حق/واجب تبديد “الإهمال واللامبالاة اللذين يشكو الشأن الثقافي منهما”. الغريب في كل هذا الكم من هذيان العظمة هو أن السيد حميش لم يشر ولو إلى بحث واحد أنجزه هو حول المثقفين، ولم يحل ولو على مرجع واحد في الأدبيات التي نشرت حول المثقفين ووضعيتهم ككتاب “المثقفون” لصاحبه پول جونسون (1988) الذي درس فيه صاحبه العلاقة بين دعوة المثقف وحياته، أو كتاب “المثقفون والشعب” لصاحبه أنجي ساندو (2007) والذي درس فيه صاحبه بعمق علاقة المثقف بالمجتمع المدني والپروليتاريا والشعب عامة، أو كتاب “مثقفو العلم” لصاحبه طود دجيتلين (2006) الذي تأمل فيه صاحبه في طبيعة المثقف النموذجي، وعلاقة المثقف بالقيم، أو كتاب “الوضعية والسلطة” الذي درس فيه تيموثي ووتسون (2004) علاقة المثقفين الصينيين في نهاية الثمانينيات بوضعيتهم في السلطة السياسية.. ليس المطلوب من حميش من طبيعة الحال أن يكتب “مونوڭرافا” كاملا مفصلا عن “المثقف” ودوره في المجتمع، بل كان عليه على الأقل أن ينير قراءه بمرجعياته حتى يطمئنوا لفهم الرجل الجيد لظاهرة المثقف وحتى يرشد من يحتاج إلى تعميق فهمه للمصادر التي قد تكون مفيدة له. أما أن يطلق الرجل كلامه على العواهن، فهو عرض من أعراض الجهل، في أحسن الأحوال، ومظهر من مظاهر الاكتفاء بالذات وهذيان العظمة (غير المستحقة) في أسوئها.
ثانياــ من المثير في مقال حميش أنه، بينما يوحي في بداية مقالته بأن غايته أن يتحدث عن “الثقافة” (الفقرة الأولى) و”المثقف” (الفقرة الثانية) بصفتهما رافعتين للتنمية، يخصص حوالي ثُلثي نص مقاله لـ”المثقف” الذي لا يرتضيه هو “مثقفا أصيلا” باعتبار عدم نهوضه بمهمة “الرفع للتنمية”. هذا يعني أن العنوان الأنسب لمقال حميش ليس هو: “من هو المثقف؟” بل “من هو الذي ليس بمثقف؟”؛ فكل ما يخبرنا به عن “المثقف الأصيل” أنه “باعث أفكار أو باذرُها، تنطبع أفعاله وأبحاثه في الزمنية المديدة، مخططٌ لتجذر الإيجابي والمكاسب الدافعة المخصِّبة في حقل الوعي والذكاء الجماعيين” وأنه “يلتزم بالجهر به وكتابته، متحليا بالحرية والجرأة اللازمتين”. هذا كل ما يمكن تحصيله تحديدا ل”المثقف الأصيل” في كلام الرجل.
فليت حميش اطلع على كتاب “المثقفون في ملتقى الطرق” لمؤلفه زيدونڭ هاوو(2007)، الذي صاغ فيه معالم نظرية سياسية سوسيولوجية درس من خلالها الأنواع الأربعة للمثقف بناء على فهم ميداني للموضوع، فبنى على هذه النظرية المتكاملة تحديدا للمثقف. أو ليته اطلع على كتاب “إعادة اختراع الحداثة في أمريكا اللاتينية” لنيكولا ميلر (2008)، الذي درست فيه (انطلاقا من فهمها الخاص للنقد الكانطي) كيف ينظر المثقف في هذا السياق للمستقبل. أو ليته قرأ كتاب “المثقفون الألمان والماضي النازي” لصاحبه ديرك موزيس (2007)، الذي درس فيه حالة مثقفين محددين واكتشف ما يشتركون فيه بصفتهم مثقفين حتى عندما يفكرون في مواضيع مختلفة.
حميش لا يدرس موضوع المثقف ولا يهمه أمره أصلا.. هدفه هو فقط أن يقصي من دائرة “الثقافة” من لا يرتضيه “مثقفا أصيلا”.
لهذا، فإن أكثر لحظات حميش في مقاله وأعنفها وأفضحها لكمية “الاحتباس العاطفي” الذي كان يكتب به الرجل مقاله هي لحظات حديثه عن هؤلاء الذين يصعب إدراجهم “في حومة المثقفين”. فمن هؤلاء قوم “أشبه ما يكون بالرخويات” (يقصد كل من كان يستلذ بالكتابة الأدبية لذاتها)، وآخرون ظاهرون في الوسائطيات يفضي بهم ظهورهم “إلى أسواق مقايضةِ المبادئ والقيم بالمناصب الملذوذة وأنشطة التربّح والإبهار”، وصنف آخر هم “الإمعيون والانتهازيون، متعبدو مسالك الاستقامة السياسية واللغة الخشبية”، وآخرون “منحلون منهارون… ينزعون، ولو من دون خوض معارك، إلى التقاعد المبكر والاهتمام بفلح حدائقهم الخاصة”، ومنهم هؤلاء الذين يكتفون بـ”طبخ الإنشائيات وترصيعها بغليظ الألفاظ ومبهمها حتى يطلقوا أقلامهم ويستبيحوا النطق في ما يجهلونه أو لا يعرفونه إلا عبر قنوات معوجَّة أو مبتذلة”، وآخرون ينسبهم إلى “تيارات الجذب نحو الأسفل… ألسنة التعتيم واللامعرفة، مشخصةً في المتثاقفين وعرّابي الشأن الثقافي ومسترزقيه”، بالإضافة إلى كل هؤلاء الذين ينتجون “خطابات المداراة والمواربة، أو إلى إعلانها سخطاتٍ ضاجة لا وقع لها اجتماعيا أو سياسيا ولا تأثير”.
بهذه الكلام العنيف يصف حميش كل هؤلاء المثقفين “غير الأصلاء”.
المشكلة في هذا الهجوم المجاني هي أنه مجرد هجوم مجاني، ولا يمكن أن يرقى إلى كلام قابل للنقاش والمواجهة الفكرية إلا تحققت تحقق في حميش شرطان اثنان أرى أن الرجل لا يستوفيهما؛ وهما:
يان ـــ أن تكون لدى الرجل قدرة على ذكر كل المقصودين بـ”انتقاده” بأسمائهم وأن ينسب إليهم ما ينسب بكلام واضح لا لبس فيه ولا غموض، دون أن يقتصر في كل مرة على “لطفاء” المثقفين ومهذبيهم مثل حسن أوريد وأحمد عصيد. عليه أن يجرب أيضا هؤلاء الذين يعرف جيدا أنهم سيشعلون النار في أنامله إذا ما هو مسهم بسيء التقول. ذاك معيار “الجرأة” ومقياسها.
سين ـــ عليه أن يبرهن على فهمه للمثقفين وطبائعهم وسلوكهم السياسي والاجتماعي كما فعلت “باربارا فالك” (2003) صاحبة كتاب “ورطات المعارضة في أوروبا الوسطى الشرقية” التي درست المثقفين ودورهم التغييري في پولاندا بالتحقيق في معلومات بيوڭرافية وإثنوغرافية وتاريخية غزيرة عن مثقفين محددين قبل أن تصوغ آراءها وأحكامها حول هؤلاء المثقفين.
حميش لا يستطيع أن يفعل ذلك ليس فقط لأنه لم ينجز بحثا في هذا الموضوع وليس فقط لأن علمه بالموضوع قليل فقير؛ بل أيضا لأنه لا يهتم بموضوع “المثقف” أصلا.. ما يهتم به هو فقط الدفاع عن “أناه” الجريحة، و”وعيه الشقي” الذي اضطر إلى مواجهته في أرذل عمره (أطال الله عمره وحفظه من كل سوء) إذ اكتشف بأن العلم القليل الذي حصل عليه في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي لم يعد ينفعه في فهم حاضر بلدنا ومستقبله، فطفق يدفع عن نفسه تهمة “قلة العلم” و”شح المعرفة” بالهجوم عن “مثقف متخيل” يعارضه بـ”أنا” له هي أيضا متخيلة.
خلاصة
خلاصة الكلام أن حميش أبان في مقاله عن حالة تثير الشفقة من الشرود الفكري، إذ شرد بحديثه عن “الثقافة” وعن “المثقف الأصيل” عن مقصده الحقيقي، ومقصده الحقيقي الذي تفضحه تخريجاته الخطابية discursive outputs (كما يسميها أهل “التحليل النقدي للخطاب”) هو أن يدافع عن “إيڭو” جريح ـــ “أنا” مثخنة بطعنات النقد العلمي الذي تعرض له وهو يمارس عنصريته الممقوتة في تهجماته على الأمازيغية ومتعلقاتها.
لتامازغا الجميلة مثقفوها وفرسانها الذين سيواصلون النّزال العقلاني، وسيواصلون إثخانهم الفكري في خصومهم إلى أن يُستردّ المسلوب.
The post رفع الشرود عن قول "حميش" في المثقف appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/rVTu5l2
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire