ثقافة إعادة التدوير(Recycling): من أين تبدأ؟!!...

The culture of recycling: where to start?!!…

يبدو أننا في حاجة إلى الرجوع مرة أخرى إلى الأهداف الإيجابية التي تتوخاها نظرية سكينر (BF Skinner) فيما يتعلق بـــــــــ”التكييف الفعال” (Operant conditioning theory) أو ما يعرف أيضاً بنظرية “تكوين العادة” (Habit-formation) أو “استجابة التحفيز” (Stimulus -response) إذ يرى سكينر أن هذه الأخيرة تلعب دورًا رئيسيًا في مساعدة علماء النفس على فهم كيفية تعلم السلوك، كما أنه ومن خلال تلك النظرية يشرح لماذا يمكن استخدام التعزيزات (Positive reinforcement) بشكل فعال في عملية التعلم، وكيف يمكن أن يؤثر تكرار التعزيز على نتيجة التكييف. وقد استخدم سكينر مصطلح “فعال” للإشارة إلى أي “سلوك نشط يعمل على البيئة لتوليد عواقب”. ومن جهة أخرى فقد أوضحت نظرية سكينر هذه كيف نكتسب مجموعة من السلوكيات المكتسبة التي ننتجها أو تعترض طريقنا كل يوم، وبالتالي فقد تصبح تلك السلوكيات في حد ذاتها مهارة مكتسبة. وللإشارة، فقد سبق للباحث بافلوف (Pavlov) بأن ربط بين قضية التعلم واكتساب المهارة عن طريق السلوك، كما يمكن القول أنه بالفعل قد سبق الباحث سكينر في ذلك المنحى. وقد عرّف بافلوف أن التعلم هو في حقيقة الأمر تكوين عادة. وبناءً على عمل بافلوف، فإن نظرية التعلم تأكد على أن هذا الأخير هو عملية ميكانيكية لتكوين العادة ويستمر عن طريق التعزيزات المتكررة لتسلسل الاستجابة التحفيزية (repeated reinforcements of the stimulus-response sequence). وبما أن الأمر كذلك، فهل يمكن القول بأن مقومات ثقافة إعادة التدوير (Recycling) يمكن اكتسابها وتعزيزها من خلال روافد التعلم؟ هذا يجرنا إلى الحديث عن جوانب أخرى فيما يخص عملية التعلم نفسها وعن دور الأسرة والمدرسة والشارع في غرس وتعزيز تلك الثقافة كمهارة مكتسبة، وبشكل إيجابي يخدم الفرد والمجتمع على حد سواء.

دور الأسرة في تعزيز المهارات المكتسبة:

سبق وأن أشرنا في مقالات عديدة بأن عملية التعلم في حد ذاتها هي عبارة عن حلقات مرتبطة بعضها ببعض، ولا تعمل بمعزل، بل هي إن صح التعبير عبارة عن ثالوث تتكون زواياه أو أركانه من: الأسرة والمدرسة والشارع. ويمكن الجزم بأنه إذا ما تعثرت عملية التعلم في إحدى تلك الحلقات، فإن ذلك ينعكس وبشكل مباشر على الأركان أو الحلقات الأخرى، أي أن عملية التعلم إن فسدت أو تقهقرت في المدرسة، على سبيل المثال، فإن ذلك سيأثر حتما على مخرجات الأسرة والشارع، والعكس صحيح. كما أن الأسرة إذا تقاعست عن دورها كمربي أول للطفل، فإن ذلك يأثر سلباً على الشارع وعلى المدرسة. وحتى وإن صلحت المدرسة وقامت الأسرة بواجبها، وتقاعس الشارع عن دوره كمربي للأجيال ولعامة الناس على اختلاف مشاربهم وشرائحهم، وكثر ت فيه الموبقات والجرائم وتقهقرت فيه الأخلاق وساءت المعاملات بين الناس وفسدت فيه مقومات العقيدة وقلت فيه مظاهر التدين وقل احترام الآخر، فلا شك أن جهود المدرسة والأسرة ستذهب سدى وتتأثر تأثيراً بالغاً لا يفي بالأهداف المنشودة ولا يساعد في بناء مجتمع قوي ومحصن ومتين.

ثقافة إعادة التدوير تبدأ من البيت وتعززها المدرسة ويكرسها الشارع:

بما أن الأسرة هي المربي الأول للطفل، وكونها المجتمع المصغر الأول الذي يصادفه الطفل في حياته، فإن على عاتقها مسؤولية جمة في صقل مواهبه والعمل على غرس المهارات اللازمة ومكارم الأخلاق البناءة التي تساعده على اكتساب مهارات أخرى يتم تعزيزها من خلال البرامج المختلفة في المدرسة ويكرسها الشارع من خلال الممارسة الفعلية والتواصل وردّة الفعل. وبناءً على ما ورد في نظرية سكينر، فإن هناك سلوكيات إيجابية عدة يمكن للطفل أن يكتسبها، وتقوم الأسرة بتعزيزها، كما أنها تقوم بنهيه وجزره (إن دعت الضرورة) عن سلوكيات أخرى سلبية قد تعرض حياته وثقافته للخطر أو يكون لها تأثير سلبي على تكوين شخصيته. ولاشك أن بمقدور الأسرة غرس مقومات بعض الثقافات في نفس الطفل وهو حديث العهد بهذه الحياة، ومنها على سبيل المثال ثقافة إعادة التدوير، وفرز النفايات بدءاً من المطبخ وتربية النشء على احترام تلك الثقافة والمبادئ والعمل بها في سن مبكرة.

هل الشارع يعكس ما تعلمناه في المدرسة والبيت؟:

عندما نتحدث عن الحضارة والرقي والتقدم، يبقى الشارع المرآة الفعلية التي تعكس حقيقة تقدمنا ومدى رقينا من حيث السلوك والتواصل والتفاعل فيما بيننا وبين الآخرين أيضاً. وبعبارة أخرى، فإن سلوكنا في الشارع هو معيار القياس الحقيقي الذي يمكننا أن نجس به نبض تربية الأسرة أو البيت ومدى نجاح المدرسة في غرس الأخلاق الفاضلة في أجيالنا. وثقافة إعادة التدوير ما هي إلا جزء بسيط من مقومات ثقافتنا المتنوعة والذي، مع كامل الأسف، لا يتجلى إلا في فرز الخبز عن باقي النفايات (نظراً لوجود الوازع الديني)، أما غيره، فمن النادر أن تجد أسرة تعير مسألة إعادة التدوير اهتماماً بالغاً، إلا من رحم ربي. وإنه لشيء محزن بالفعل عندما ترى الناس يرمون بكيس القمامة جنب المكان المخصص لها، بل أمام باب البيت أو العمارة، أو رميها من نافذة السيارة أو رمي أعقاب السجائر في الشارع والبصق أمام الملأ أو التبول على الجدران دون خجل! تلكم بعض مما يندى له الجبين، ناهيك عن الكلام الفاحش والكلام النابي الذي أصبح يملأ الشوارع والطرقات، بالإضافة إلى أصوات الدراجات النارية الصاخبة حتى في أوقات متأخرة من الليل وبدون مبرر (وبهذه المناسبة، نحيي رجال الأمن على الحملات التي يقومون بها ضد هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا). هذه الأفعال لم يؤلفها بل لم يشهدها العديد منا حتى منذ زمن غير بعيد، بل كلها تتنافى مع مبادئ الاسلام وتربيته.

أما فيما يخص الدولة، فرغم كل الخطوات الجبارة التي أحرزناها في مختلف الميادين وبدون منازع، فيبدو أننا ما زلنا متأخرين عندما يتعلق الأمر بمسألة إعادة التدوير، لأن البلدان الأخرى قد شرعت في تدريس واكتساب عملية إعادة التدوير كمهارة منذ أكثر من عقد من الزمن. ولهذا وحفاظاً على نظافة البيئة والمناخ عامة، فإن بإمكان الدولة تعزيز تلك الثقافة من خلال محاور متعددة، بدءاً بوضع حاويات مختلفة اللون والشكل كل واحدة منها خاصة بشيء معين كبقايا الخبز والخضر والفواكه والورق والزجاج والمعادن ونفايات الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والبلاستيك والملابس والمنسوجات وباقي النفايات، حيث تعد إعادة تدوير تلك المواد أمرًا حيويًا لضمان تقليل التأثير البيئي وتقليل النفايات العامة غير الضرورية. وبالموازاة مع ذلك، يمكنها توفير الأكياس الخاصة بذلك بثمن مدعم ورخيص، وكذلك القيام بحملات تحسيسية من خلال البرامج التلفزية والإذاعية ووسائل الاتصال الاجتماعي والمساجد، بالإضافة إلى الأنشطة المدرسية ومختلف جمعيات المجتمع المدني. ولا شك أن وجود زخم تحسيسي بهذا الحجم، مع وجود وسائل وأدوات مادية ملموسة قابلة للتطبيق على أرض الواقع وبشكل مستدام، سيكون أداة لتعزيز وتكريس ثقافة إعادة التدوير، ويجعل الناس تتسابق في فعل الخير والإحسان، ولما لا التوجه إلى أدواة ووسائل تحفيز وتشجيع متنوعة في مختلف الأحياء تصب في نفس المنحى، وخلق أنشطة وبرامج مختلفة يكون لها الأثر البليغ في نفوس المواطنين والمواطنات وتساهم في الرفع من مستوى سلوكنا في الشارع كي يكون سلوكاً و أسلوباً حضارياً بكل ما في الكلمة من معنى، سلوكاً يساهم في الحفاظ على بيئة إيكولوجية نظيفة ويعكس مستوانا الثقافي والحضاري والأخلاقي، ويعكس مدى اهتمامنا بالمحافظة على الملك العام وأحياء نظيفة، و مدى تشبثنا بمبادئ ديننا الحنيف والعمل بها كإماطة الأذى عن الطريق، على سبيل المثال، ويعكس أيضاً مدى تشبثنا بهويتنا وبمكارم أخلاقنا، ويعكس أيضاً – قولاً وفعلاً- تلك الجوانب المشعة الزاهية من ثقافتنا وموروث أجدادنا.

والله ولي التوفيق،،،

*باحث في مجال التربية والتعليم والثقافة

The post ثقافة إعادة التدوير(Recycling): من أين تبدأ؟!!... appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/dZcsNQT

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire