منطق القوة القاهرة في التدبير العمومي

نستهل هذه المقالة باستحضار تلك الدينامية التي شهدتها الساحة السياسية والعمومية عشية الدخول الاجتماعي 2019/2020. حيث تم إطلاق مجموعة من المشاريع والاتفاقيات الاقتصادية والصناعية في إطار شراكات بين القطاعين العام والخاص، وبتمويلات والتزامات بنكية مهمة جدا. وذلك وفق رؤية استشرافية مندمجة تروم التنمية الاقتصادية والإقلاع الاقتصادي. ومنذ التوقيع على هذه الاتفاقيات والشراكات والمشاريع التي أشرف عليها جلالة الملك، تم تسريع وثيرة تنزيل هذه البرامج التعاقدية، غير أن بداية سنة 2020 حملت معها مفاجأة غير متوقعة، مفاجأة عطلت الاقتصادات الدولية وشلت معها الحركة بالبث والمطلق. وهو ما عرف بجائحة كوفيد 19، وهي الجائحة التي مازالت ارتداداتها وتداعياتها مستمرة إلى حدود يومنا هذا، بل وأكثر من ذلك انضافت إليها أزمات جديدة أكثر حدة ألا وهي أزمة ارتفاع الأسعار الدولية للمواد الأولية، وتوسع الصراعات الإقليمية والتوترات السياسية في أكثر من منطقة عبر العالم. وهي كلها أزمات ترخي بظلالها و تداعياتها السلبية على بلدنا المغرب، مما يجعل كل محاولاته و مجهوداته في سبيل الإقلاع الاقتصادي تتحكم فيها هذه القوة القاهرة، و تجعل توجهاته وسياساته العمومية مرهونة بشكل كبير لتأثير هذه الأزمات المتوالية و المتناسلة.

في ظل هذه السياق العام المتأزم والبنيوي على ما يبدوا – لأنها أزمات عنقودية ذات تأثير توالدي – فعوض أن تنكب الدولة على تنزيل برامجها التنموية، واشتغال الفريق الحكومي الجديد الذي تشكل بعد انتخابات 8 شتنبر 2021. فإن الظاهر هو استنفار كبير في أجهزة الدولة ومؤسساتها نحو توجه جديد يقوم على منطق تدبير الأزمات المتلاحقة. فمن أزمة كوفيد19 التي عطلت الاقتصاد و التنمية، إلى الارتفاع غير المسبوق للأسعار في الأسواق العالمية، و انتهاء عند معضلة تناقص التساقطات المطرية بما ينذر بموسم فلاحي ضعيف.. . وجدت الدولة نفسها أمام سناريوهات محدودة ولا تتجاوز في أفقها مستوى تدبير الأزمة، عوض الاشتغال على الاستراتيجيات الزمنية والقطاعية المسطرة من قبل الفاعل السياسي والحكومي. وهو ما يحول دون التقدم نحو أفاق استشرافية و عملياتية للسياسات العمومية المعتمدة. وبات الهاجس الأساسي والسؤال المركزي للفاعلين هو البحث عن المداخل الممكنة لموجهة هذه الموجة المتواصلة للأزمات وارتداداتها الاجتماعية والاقتصادية، وتعطيل المقاربات الإرادية للدولة لتنزيل السياسات التنموية المتعاقد عليها.

إن منطق القوة القاهرة المستلهم من نظرية القانون الإداري، هي ما يمكن به تفسير هذه الصعوبات والعوائق التي تحد من فعالية السياسات العمومية التي تتوخى من خلالها الدولة تحقيق الإقلاع التنموي والاقتصادي. حيث هناك مجموعة من التدابير والإجراءات الطموحة، ومجموعة من الاستراتيجيات التنموية المسطرة. لم يستطع الفاعل السياسي / الحكومي إعطاءها الاهتمام والمتابعة اللازمة. و هذا لكون هذه الأزمات المتتالية تستنفذ جزءا مهما من المجهود العمومي في سبيل تدبيرها ، و هي أيضا تتصف بالقوة القاهرة لكونها تكون مستبعدة في تحليلات الفاعل السياسي ( ارتفاع الأسعار مرده إلى السرعة التي يتفاقم بها التوتر الجيوستراتيجي الدولي و انفجار بؤر جديدة للتوترات الإقليمية كما الحال في الأزمة الأكرانية حاليا ، أيضا تراجع معدل التساقطات المطرية هو أمر لا يمكن التنبؤ به غير أن تأثيره على دينامية الفعل العمومي كبير جدا ، و من جهة أخرى ارتدادات جائحة كورونا – كوفيد 19 – لا زالت متواصلة حيث بعد كل قرار لاستئناف الأنشطة الاقتصادية تليه قرارات الإغلاقات و التدابير الاحترازية …) ، كل هذه العوائق الواقعية هي نتاج ظروف و قوة قاهرة خارجية غير متحكم فيها . وهو ما يشكل عبأ ثقيلا على سيرورة التدبير العمومي وتنزيل السياسات العمومية الوطنية.

أمام هذه التحديات والإكراهات المستجدة والطارئة، يجد الفاعل السياسي والحكومي نفسه في مواجهة واقع شديد التغيرات، يستدعي مضاعفة الجهود والتدخلات المستعجلة، وتصبح المقاربة ذات منحيين متناقضين ومتنافرين: المنحى الأول هو المعالجة الفورية لأثار هذه الأزمات وتقديم حلول عملية لها، والبحث عن أقصى قدر من الفعالية للحد من أثارها المباشرة والأنية. وهو مجهود استعجالي له تكلفته الكبيرة والمضاعفة. وهناك المنحى الثاني الذي يتمثل في ضرورة استمرارية الوظائف العمومية للدولة من خلال العمل على تنزيل السياسات العمومية والبرامج الحكومية وفق رؤية استراتيجية تمتد للولاية الحكومية. ولتدبير هذا التعارض بين المنحين يكون الفاعل السياسي في وضعية الإرهاق حيث يتوجب عليه العمل على الحد من تأثيرات الأزمات الطارئة والمحافظة على وتيرة تنزيل السياسات العمومية في نفس الوقت، وهو الأمر الذي يصعب تنفيذه ليخلص إلى تعطيل مجموعة من البرامج أو تأجيلها إلى حين. رغم أن الفاعل السياسي من المفترض فيه البحث والإبداع في التدبير العمومي، كما أن تدبير الأزمات الطارئة جزء لا يتجزأ من مسؤولياته السياسية.

إن مفهوم القوة القاهرة في التدبير العمومي يجب أن يتوطن لدى الفاعل السياسي، لأن الظروف العادية و الاستقرار في المؤشرات الاقتصادية و السياسية سواء داخليا أو خارجيا، أصبح أمر استثنائيا بحكم الواقع ، لأن منطق الأزمات و التوترات هو المحرك الطاغي على السياسات الوطنية و الدولية ، و هو معطى بنيوي تفرضه العلاقات الجيوبوليتيكية العالمية التي أصبح تأثيرها ممتدا و واسعا في عالم اليوم . و الدولة من خلال الفاعل السياسي مطالبة أكثر من أي وقت مضى استثمار المناهج التحليلية و الدراسات الاستشرافية لمواكبة هذه الظروف الطارئة بمقاربة استراتيجية تقوم على تشخيص عميق للمتغيرات و تحليل توجهاتها و مساراتها في المستقبل المتوسط و البعيد، بما فيها التحديات المناخية التي أصبحت ذات تأثير كبير على السياسات العمومية.

إن الفاعل السياسي والحكومي مطالب اليوم بإيجاد توليفة تدبيرية تجعل من تدبير القوة القاهرة والطارئة تدبيرا لا يتعارض ومنطق السير العادي للفعل والوظيفة الحكومية، بمعنى أخر ألا يبنى تدبير الأزمات الطارئة على حساب تنزيل وتفعيل البرامج الحكومية، وأن لا تكون هذه الأزمات عاملا لتعطيل جهود الدولة في الاستجابة للطلب الاجتماعي و ترجمة التعاقدات السياسية بين الفاعل السياسي و المواطن.

وعليه فإن الاستيعاب المنهجي والعلمي لمنطق القوة القاهرة في تدبير السياسات العمومية والشأن الحكومي هو سقف عالي في مراتب الممارسة السياسية المعاصرة، إنه تحدي الإبداع في البدائل الممكنة والخلاقة. ولعل المغرب بدأ خطواته الأولى في هذا الاتجاه، والمؤشر الدال على هذا التوجه هو هذا التراكم الإيجابي على مستوى توطين ثقافة الدراسات الاستراتيجية التي تقوم بها مجموعة من المؤسسات الوطنية وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وكذا تقارير المندوبية السامية للتخطيط، وتقارير بنك المغرب …، وهي مؤسسات تشتغل من زاوية تنظيرية و تأطيرية للنقاش العمومي، تروم الحد من عنصر الفجائية في مسار رسم و تنزيل البرامج و السياسات الحكومية رغم ما قد يسجل على عملها من ملاحظات.

هذا التوجه الجديد في مسار تخفيف منطق القوة القاهرة في التدبير العمومي ، تعزز بالدعوة التي وجهها جلالة الملك بمناسبة عيد العرش ، حينما دعا إلى ضرورة اعتماد المغرب على سياسة وطنية للادخار الاستراتيجي و مفهوم الاحتياطي الإلزامي للمواد الحيوية لتحصين الأمن الاستراتيجي سواء في الغذاء و الماء و الطاقة … و أيضا لتعزيز و تقوية السيادة الوطنية في مجموعة من القطاعات المصيرية، لعل أهمها السيادة الوطنية في مجال الصناعة الدوائية على ضوء الجائحة الصحية – كوفيد 19 – باعتبارها القوة القاهرة الشاهدة على مرحلة التدبير العمومي الراهن .

وعلى سبيل الختم، يمكن القول أن تكلفة القوة القاهرة في التدبير العمومي ستكون أقل حدة إذا ما تم الاستثمار في هذه المداخل الاستراتيجية المميزة للتدبير العمومي الحديث، المبني على دعامة الحكامة و التخطيط الاستشرافي.

(*) أستاذ باحث في العلوم السياسية

The post منطق القوة القاهرة في التدبير العمومي appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/kxh3PGm

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire