سيدي قدور العلمي.. شهرة صوفية تعلي "فيلسوف شعراء الملحون" بالمغرب

الملحون “ديوان المغاربة” الذي يعكس غنى رؤاهم وتوجهاتهم ومعيشهم وتجاربهم، ويختزل كل هذا في قصائد شفهية ومكتوبة بدارجة رفيعة مقفاة تمدح الرسول، أو تعظ الناس وتشاركهم الحكم، أو تنبههم إلى الأخلاق المذمومة، كما تتغزل أو تتغنى بالجمال أو بما تشتهيه النفس.

لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية جمعت في سلسلة “التراث” أبرز دواوين الملحون وأعدتها، فوضعت “موسوعةُ الملحون” على الرفوف، قبل سنتين، جزأها الحادي عشر الذي نظمه الفقيد الحاج أحمد سهوم، ليجاور دواوين: عبد العزيز المغراوي، والجيلالي امتيرد، ومحمد بن علي ولد ارزين، وعبد القادر العلمي، والتهامي المدغري، وأحمد الكندوز، وأحمد الغرابلي، وإدريس بن علي السناني، والمولى عبد الحفيظ، ومحمد بن علي المسفيوي الدمناتي.

تروم سلسلة هسبريس هذه تقديم بعض من قصائد الملحون المغربية، وناظميها، وبيان عمق مضامينها، وما تحمله من غنى، انطلاقا من العمل التوثيقي المعنون بـ”موسوعة الملحون” الذي أشرف عليه عضو أكاديمية المملكة المغربية عباس الجراري وعدد من الخبراء والمتخصصين.

“فيلسوف شعراء المغرب”

“فيلسوف شعراء الملحون، إن لم يمكن شعراء المغرب عامة”، هكذا وصف الأكاديمي المتخصص في الأدب المغربي رئيس لجنة الملحون عباس الجراري الشيخ عبد القادر العلمي، المعروف بـ”سيدي قدور العلمي”، في رابع دواوين “موسوعة الملحون”.

وفي تقديم عميد الأدب المغربي عباس الجراري لديوان عبد القادر العلمي، كتب أنه ولد بمدينة مكناس، وأتم 112 سنة، بين منتصف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، و”عاش-هذا الشاعر الكبير-في فترة شهدت ازدهارا لفن الملحون، وكان فيها متميزا بسلوكه وفكره وإبداعه، وما كان لذلك كله من صدى بوأه مكانة مرموقة ومتفردة في تاريخ هذا الفن”.

وأضاف الجراري: “يبدو أنه قضى فترة طويلة من حياته في مكناس، قبل أن يرحل إلى مراكش حيث أمضى نحوا من عشرين عاما”، كان يزور خلالها “كل يوم أضرحة رجالها السبعة أو بعضهم”، قبل أن يعود إلى مكناس “ليلازم زيارة ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون في كل جمعة” ولم يتخلف عن ذلك “إلا في السنوات الأخيرة من عمره، حين لازم داره لا يغادرها إلا للخروج إلى صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، وإن كان انقطع في داره نهائيا لا يخرج حتى لهذه الصلاة في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، بسبب ما اعتراه من الجذب”.

وأخذ قدور العلمي، وفق الجراري، عن مشايخ من بينهم “الحاج المختار البقالي، وسيدي علي بن عبد الرحمن المعروف بالجمل، ومولاي الطيب الوزاني، وسيدي محمد بن أحمد الصقلي”، كما أخذ عنه تلاميذ كثيرون، من ضمنهم “السلطان المولى عبد الرحمن، وفضول بن عزوز، وفضول السوسي، وحمد غريط، والحاج قاسم ابن المير، والحاج أحمد الدقيوق، ومحمد بن الحفيظ الدباغ، وسيدي العربي بن السايح…”.

وكتب رئيس لجنة موسوعة الملحون أن هذا الشاعر “يبدو أنه كان على صلة وثيقة بالسلطان المولى عبد الرحمن الذي كان يجله ويقدره ويتبرك به، والذي كان يعتبر من خاصة تلاميذه ومحبيه، يزوره كلما حل بمكناس، ويستشيره في كل مهم عن له”، إلا أنه “وعلى الرغم من هذه المكانة وما كان له من اتصال بالسلطان، فقد شاع عنه أنه كان متقشفا في حياته، جل قوته الخبز والزيتون، وأنه كان حصورا”.

واعتبر الشيخ قدور العلمي بهذا “من الأولياء العارفين، وإن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب”، علما أن بعض تلاميذه كانوا يدونون له قصائده، خاصة محمد غريط، والحاج قاسم ابن المير، والحاج أحمد الدقيوق.

فلسفة سيدي قدور العلمي

كتب الأكاديمي عباس الجراري أن شاعر الملحون الشيخ عبد القادر العلمي “أكثر حظا من غيره، لشهرته الشعرية والصوفية، وبما عرف عنه”، من زاويتين، أولاهما: ما كتب عن نفسه وما عبر عنه في قصائده التي تكشف عن شخصيته وفكره وحاله في المجتمع ورؤيته لهذا المجتمع، وثانيتهما: ما كتب عن حياته وشعره.

وباعتبار ما ورد في شعر العلمي حول احتكاكه بالمجتمع، وانتقاده لسلوك الناس، والوعظ بنفس تأملي “مما تفرد به أو كاد”، يسجل الجراري أن هذا الشيخ اعتبر “شاعر الحكمة الأول”، و”فيلسوف شعراء الملحون”.

ورغم ما يبدو في شعره من “فلسفة سلبية يائسة، تقوم على التشاؤم من الناس والحياة”، يسجل الجراري أنها ليست كذلك في الواقع “أو بالأحرى ليست دائما كذلك”، ويزيد شارحا: “حقا أننا سنجد روح التشاؤم تطغى أحيانا على العلمي، فيرى أن كل أبناء جيله موسومون بطابع واحد، فشا فيهم النفاق والتحايل والخداع والرياء”، ورؤية أن “الصحبة غدت وسيلة لتحقيق الأغراض”، وأن الغني في الناس “عزيز في كل مكان، لو ظلم وقف الناس يحمونه”، أما “الفقير فيبغضه الناس بلا سيئات”، إلا أنه “لا يلبث أن يعتدل في نظرته، فيرى أن الحياة لا تخلو من حلاوة ومرارة”.

ويقدم عميد الأدب المغربي أمثلة بمقاطع من ملحون سيدي قدور، ففي الحال الأول أقواله: “هاذو اشروط علايم وقت التخراب .. عاد النفاق امودة بين الناس الكبرى .. بالحيلة والمصانعة والخدع عادت اخلاق اطبايعهم مقلوبة … مذهبهم ندريه خممت اولاد جيلنا كاع بعصا وحدا مضروبة .. شاع الريا والاحسان اغبر والصدق غاب .. واترفع الحيا والعرض والحسب”، و”مول الدينار يخضعوا ليه الهامات .. انفاق لصحته وماله وكسوته”، و”بهجة الدنيا تركت كل وغد مسحور .. كاد حسن ابهاها يسبي هل البصيرة”.

ثم في حال “الاعتدال”، يقول قدور العلمي في شعره: “يوم اشلوق ويوم احلو ويوم زقوم .. ويوم مستعدل ما بين الطيب والزهامة”، كما يقول: “معلوم كيف ما دامت رخفة ما تدوم شدة .. هذا امواجب احكام اصروف الدهر … يوم احلا من طعم تمر .. ويوم كمثل الحنظل مر”.

ويتابع الجراري بأن “فلسفة” العلمي لم تكن دائما سلبية؛ إذ “نجده يقدم نصائح إيجابية في أدب السلوك، يدعو فيها من أراد السعادة أن يتحلى بخمس خصال، هي الصمت والعزلة والمسالمة والقناعة والتسامح، وأن يتجنب خمسا أخرى، هي الحسد والكبر والجفاء وضيق الخلق والطمع”.

وبهذه الرؤية في الحياة، يرى رئيس لجنة الملحون أن العلمي في الحقيقة “لم يكن متشائما من الحياة والناس لسوداوية طبعه أو حدة مزاجه، أو نفوره من المجتمع، ولكنه كان واقعيا في نظرته وفي تأمله”، وهي “الواقعية” الظاهرة حتى في “تعبيره الصادق بإيجاب وتفاؤل عن بعض أحواله النفسية وهو يتحدث عن الحب والمحبوب، ويشكو من الهجر والفراق، إذ نجده حين يتاح له الوصال، يعرب في صدق عما يحس فيحمد الله ويشكره أن عافاه من سقمه، وقد زال غمه وظهر نجمه بين الأبراج كالهلال، ونال المقصود ودنا له وقت السرور، فزهت أيامه وأزهرت أغصانه بعد يبس وذبول”.

ويذكر الجراري أن شعر العلمي يسير في اتجاهين، أولهما: “ذاتي يتمثل في غزله وتوسلاته”؛ أما الغزل “فيقتصر فيه على وصف الملامح الظاهرة، في حشمة ووقار وتحرج من تعدي هذه الملامح، على عكس كثير من شعراء الملحون الغزليين”، وتتمثل التوسلات في “مدح الرسول ﷺ والاستغاثة به لإخراجه من معاناته” والتوجه بالتوسل إلى الله.

أما الاتجاه الثاني في شعر علم الملحون هذا، فيتجلى في “مواكبة أحداث عصره وأحوال مجتمعه، ويسير في خطين: مدح السلطان والدعاء له (…) واحتكاكه بالمجتمع، وانتقاد سلوك الناس، وإصدار الموعظة في نفس تأملي، مما تفرد به أو كاد”.

ديوان سيدي قدور العلمي

يوثق ديوان الشيخ عبد القادر العلمي، الذي جمعته وأعدته لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، أشعاره المتداولة في المغرب، والجزائر أيضا، ويضم سبعين قصيدة؛ منها 55 مؤكد أنها له، و15 اعتبرتها اللجنة منسوبة إليه وألحقت بالديوان.

ومن بين الأغراض التي قال فيها سيدي قدور العلمي “المدائح”، قصائد: “الجيلانية”، و”المشيشية”، و”جمهور الأولياء”، ومن التأملات: “الفرج”، و”أمن ضامه الزمان”، و”القلب”، ومن الحكم: “التاتية”، و”زال تقليده”، و”من صرخته لحماه قريبة”.

وفي العشق يجد القارئ من بين قصائد العلمي: “الجافي”، “ما زين اوصولك”، “اخديجة”، “ارفق امالكي بعبدك”، “ارقية”، “فضيلة”، “الرافة يا سلامي”.

كما قال العلمي في “عشاقياته”: “ورقة مول الحب”، “الخد الذهبي”، “الساقي”، “الطاهرة”، “أم الغيث”، “أنا في عارك”، “دابل العيان أو لغزيل”، “فاطمة”، “كيف يواسي”، و”قال المزيان اوصف لي زيني”.

وفي تفسير “التناقض الصارخ بين الغزل بالمرأة من جهة، ومدح الرسول ﷺ والتوسل به من جهة ثانية، لا سيما ونحن بصدد شاعر له مكانته في مجال الزهد والولاية الصوفية”، يرجح عباس الجراري الرأي القائل بأن عبد القادر العلمي عاش مرحلتين في حياته: مرحلة عادية كان فيها يعيش حياة بشرية كسائر الناس، يحب ويستمتع بحبه ما أمكنه، وفيها قال قصائده الغزلية. ومرحلة زهد وانقطاع عن الدنيا ومتعها ومتاعها، وفيها نظم توسلاته ومدائحه النبوية ومواعظه ووصاياه.

وذكر الجراري أن سبب هذا التحول، وفق أشياخ، “أنه تعرض لحادث هز كيانه وجعله يغير مسيرة حياته، وهو أنه حين نظم قصيدة “المحبوب” التي أولها: “كيف ايواسي اللي افرق محبوبه وابقى بلا اعقل في لرسام افريد”، عارضها أحد معاصريه بقصيدة مديح نبوي بدأها بقوله: “كيف ايواسي اللي اعشق محبوبه وابغا ازيارته لكن جاه ابعيد”.

من شعر العلمي

يقول قدور العلمي في قصيدة “النهار”: “وهو يا سيدي متلي مع الغرام اسفينة ما بين موج … موجة اتحطها واخرى ترفدها .. ولا قدر رايس يرصدها .. غادية في البحر وحدها … على اجهدها .. امثل الطير الذي اجناحه واتي .. ولا اشفق من تمراتي .. على امحانه يصبر من لا اعطاه سعده رافة ولا سخى بمال”.

وفي “البستان”، قال العلمي: “سعد القلب الهاني .. سعدات من اخلاكه مرتاحة من المحان … حب الزين افناني .. رهف مهجتي واضحيت ارقيق الابدان”، إلى أن يقول: “عشقي ما هناني .. والفت بالمليح يواصلني للمكان … ويغدر كيساني .. ويحزني على صدره تتفاجى المحان”.

وفي “من صرخته لحماه قريبة”، قال الشاعر: “وهو يا سيدي عشق الجمال طبع اغريز في من هو لبيب … ديما امعاه نعت احبيبه .. كالمسك الدكي في جيبه … متعاهد النسيم بطيبه … والولف ريح غلاب .. متروك فيه العتاب”، وحربة هذه القصيدة: “من صرخته لحماه قريبة .. ومقامك علاه .. حب غيره لا تستحلاه”.

كما يورد في قصيدته “الصايلة”: “حب الحسن كيتيه بهواه اجوارح الرجال .. ويكسر توبة الفضال … ويجيب العاشقين أسرى .. للسجن بلا امقاتلة”.

وفي “القلب”، يقول شاعر الملحون: “وهو يا سيدي عدتي يا القلب الغافل تخطى الصواب … الصمت كيقولوا العرب حكمة … مجدوه الناس القدما .. وسكات عام افضل من كلمة … بغير ندمة … واللي تبغي يعاشرك زين له في ما يدير لا تصلح له معيوبة … حاله يبقى له … وصاوا الاولين في ازمان أخر على المصانعة عاد الصدق عجوبة … والخدعة تنبيه”.

ويقول في “حربة” القصيدة، أي لازمتها: “قلبي يا قلبي توب وانتهى من لهوك ولغيه .. وعلم ما باقي من تعاشره وتنصحه … وتنهيه على المعيوبة .. وكلامك يبغيه”.

وفي قصيدة “الفرج” ومطلعها “وهو يا سيدي لا رب غيرك اقريب امجيب في كل حين يصاب”، قال العلمي: “وهو يا سيدي اجميع ما اكسبت وسيت انت اعليه ركاب … تعلم ما انويت في داخل قلبي … وما نميز عاد ونخبي .. لا اتواخدني يا ربي … ابشوم ذنبي … من يرحم اضعيف ابحالي ويكون له مساعد .. ويواعده ويوفي له ما ينقض عليه عاهد … ويسلكه من اوحاله … دونك يا من اعتتق الخليل من اللضا اللهلاج”.

The post سيدي قدور العلمي.. شهرة صوفية تعلي "فيلسوف شعراء الملحون" بالمغرب appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3q6L0UC

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire