حلة إبداعية جديدة اكتستها مدينة أصيلة في إطار الدورة الثانية والأربعين من موسمها الثقافي السنوي، تجاور فيها الأعمال التشكيلية والمنحوتات وورشات الإبداع جداريات رأت النور صيف السنة الجارية (2021).
واختار “موسم أصيلة الثقافي” في إعلانات دورته الراهنة تذكر التشكيلي الراحل البارز محمد المليحي، الذي كانت أصيلة مسقط رأسه وهي الآن مثواه الأخير.
وتبرز من الملصق الرسمي للدورة الـ 42 منحوتة محمد المليحي الضخمة بـ”كدية السلطان” والأطفال، الخلف، في صعود للتعرف عليها؛ مسار تجربة طبعت تاريخ الإبداع الفني العالمي المعاصر والتاريخ الذي علت بين جنباته لاحقا؛ إرث إفريقي ومقاومة للاستعمار في عهد الملك الراحل محمد الخامس.
أمواج المليحي التي تطل على أصيلة، ملهمتها، ليست أثره الوحيد على المدينة التي كان من مؤسسي منتداها الذي أعطى انطلاقة المهرجان قبل ما يزيد عن أربعة عقود، وصمم هويته البصرية.
وعلى مر السنين، تجددت جداريات المدينة العتيقة بأصيلة بأعمال فنية من توقيع تشكيليين ورسامين مغاربة وعالميين؛ موعد لم تخلفه أصيلة.
وتأخذ إحدى جداريات الصيف الراهن زرقة المدينة إلى “أقسى” تدرجاتها، وتحضر الحمامة دامعة، تتلاشى ألوانها، وتسقط عبرات غير منحصرة الأثر في حدود الجدارية، بل تمتد إلى العالم خارجها.
حدود مرسومة، قفص فارغ، خطوط على الحائط تحصي أيام الحصار بعيدا عن رحابة الأرض؛ مشهد ينفتح على أسئلة الحرية، والعيش الكريم، والأفق… في سياقات تطغى فيها لغة الإحصاء (الكاذبة ولو صدقت؟) على صدق الواقع.
ومن بين الإسهامات الفنية المعروضة هذه السنة على جدران أصيلة، عمل أعد بإشراف من الفنان عبد القادر المليحي، أخ الفنان الراحل. كما تحضر جداريات أبدعت بأياد تلاميذ تحت إشراف فناني المهرجان.
وبباب البحر، تحضر منحوتات نحتت بأيد مغربية ومصرية وأرجنتينية وإسبانية وبرتغالية وفرنسية وإيطالية، خلال الورش الدولي للنحت بأصيلة الذي عقد في ماي من سنة 2018.
وفي مدارات المدينة، تحضر أعمال حديثة وأخرى أبدعت في مواسم سابقة من المهرجان. كما تحضر هذه الإبداعات في حدائقها التي سميت تيمنا بأعلام استضافتهم أصيلة خلال العقود الأربعة الماضية: الطيب صالح، محمد عزيز الحبابي، محمود درويش، محمد عابد الجابري، تشكايا أوتامسي، أحمد عبد السلام البقالي، بلند الحيدري.
وفي المعبر المؤدي إلى “قصر الريسوني” الذي كان من الأسماء التي طبعت المشهد السياسي ذات مغرب، تحضر أعمال فنية لمجموعة من بنات وأبناء المدينة.
أمواج المليحي تعلو السقف، ولوحات تعبيرية تبرز فيها ملامح الإنسان في قلب الكون الذي لا يعني فيه تفرده الشيء الكثير؛ أتعبير عن التحدي الإنساني لظواهر تتعداه ولو كان منها رغم مصيره المحتوم الذي سيترك معه الملامح التي تجعله هو، لا غيره، ليواريها التراب؟
ومن عوالم العيش، يسعى عمل لمريم بن فارس إلى جمع أطياف الذاكرة المنفلتة، فتحضر ألوان صافية وقلقة ومعتمة… ومعالم غير معرفة، ولا مكتملة، أضغاثا سائلة، وأحرفا دالة على الوجود.
وتحضر في عمل تركيبي لسراج هلالي لحظات إنسانية؛ كائن فرد يظن كل تجربة، أمر يختص به، عليه شق طريقه من المطبات نفسها التي حذرها. يتأمل، يقلق، يسعد، يلتقي ويفارق، ويعيش ليرحل… ويسعى ليكون.
هذه السنة الإنسانية، ولو رافقت الأرض مذ كانت، لا تنفي عن الإنسان حق التجربة، حقه في الوعي المبني على اللمس لا الاكتفاء باتباع القول. هذا التشابه في التجارب مهما اختلفت المواقع والمراتب والأزمنة، سبيل الإنسان، عندما ينظر إلى ما يصدر عنه آخره، إلى استيعاب أننا واحد، وأن الخطأ، مهما عمت البصائر ولبست الخطب، هو الاعتقاد بغير ذلك.
وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قالت سارة احلالوم، المكلفة بتنظيم معرض “الفنانين الزيلاشيين الشباب”، إن هذا الموعد قد “جمع شبابا من مدينة أصيلة يشاركون لأول مرة في إعداد معرض، وكانت فرصة ليلتقوا بفنانين كبار ويتقاسموا تجارب فنية”.
وتابعت قائلة: “يضم المعرض أعمالا متنوعة من صباغة، ومنشآت فنية… بموضوعات مختلفة؛ فهناك من اشتغل على إعادة التدوير والتصميم، ومن مزج هواية الركوب على الأمواج بالفن”.
وزادت بأنه “تكريما لروح الفنان محمد المليحي، في ذكرى رحيله الأولى، أقام طارق فيطح عمله”، في هذا الملتقى الذي يشكل “فرصة لتقاسم التجارب، علما أن أغلبية فنانيه الشباب عصاميون، وأجروا أبحاثا عن التوجهات الفنية العالمية الحالية”.
ورغم ارتباط اسم هذه المدينة الشمالية بوصف “أكبر معرض فني مفتوح في المغرب”، إلا أن “معارضها” لا تقتصر على الفضاءات العمومية، بل تمتد إلى فضاءات عرض أخرى.
من بين هذه المعارض، معرض خاص بالأطفال يضم أعمال الدورة الصيفية من “موسم أصيلة الثقافي” في السنة الراهنة 2021.
ويعرض رواق مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية أعمال فناني “مجموعة ربيعيات الفنون في أصيلة” الذي افتتح متم شهر أكتوبر الماضي، ومن المرتقب أن يستمر إلى نهاية شهر نونبر الجاري.
ويجمع هذا المعرض أعمال فنانين مغاربة وإيطاليين وبحرينيين وإسبان، هم: نجوى الهيتمي، عبد القادر المليحي، سارة أحلالوم، لبنى الأمين، محمد عنزاوي، سهيل بنعزوز، مارتا دي بابلوس، نرجس الجباري، شعة الخراز ديكنز، طارق فيطح، حكيم غيلان، جياكومو لومير، سناء السرغيني عيدة، ومعاذ الجباري.
ومن المرتقب أيضا أن يفتتح في رواق المركز نفسه معرض فردي للفنان المغربي الإسباني خالد البكاي، بعنوان “فيرتكال-إن”.
في هذا السياق، قال التشكيلي خالد البكاي، في تصريح لهسبريس، إن هذا المعرض “أخرته الجائحة، ونظم الآن، وهو معرض شخصي أهديته إلى أصيلة التي استدعتني، ردا للجميل”، وهو “حوار أفقي بيني وبين الأرض، عبر قصب البامبو، الذي اكتشفته في الصين، والذي يشكل حوارا واتصالا بين ما هو سطحي وبين ما هو عمودي”.
ويستقبل مهرجان أصيلة هذه السنة مشغلين يجمعان فنانين من داخل المملكة وخارجها حول الحفر والصباغة، ستعرض أعمالهما بالمدينة في وقت لاحق.
حول مثل هذه الورشات، قالت سناء السرغيني عيدة، فنانة تشكيلية، إنها منذ أول مرة شاركت في موسم أصيلة، في ورشة الحفر سنة 1989، ظل أثر المشاركة “منقوشا، محبة للعمل والمكان”، وهكذا “في كل دورة أحس بنفسي أولد من جديد، ومن داخل المغرب وخارجه من يشارك في دورة يظل يتطلع للمشاركات في دورات أخرى”.
وواصلت السرغيني عيدة، في تصريح لهسبريس، بأن هذه الورشات “هي مدرسة فنية في الحقيقة، كل فنان يأتي بمساره وتقنياته، ويجري أخذ وعطاء بين الفنانين، وتتولد صداقة تبقى مدة طويلة (…) ونشتغل هنا بدون قيود، في حرية للتعبير هي منهج بناء للفكر الصحيح”.
وحول أثر حضور التعبيرات الفنية في حياة الساكنة، ذكرت المتحدثة أن “جل سكان أصيلة فنانون ومبدعون بالطرز والصناعة التقليدية والشعر والكتابة، وبوجود مشاغل للكتابة والرسم للأطفال، الطلب عليها كثير”.
وزادت بأن “الساكنة تنتظر بفارع الصبر هذه التظاهرة للمشاركة فيها، وسبق أن أعددت جدارية وأتذكر تفاعل سيدة يجاور بيتها هذا العمل، كانت تتجاوب وتحكي لي قصة المدينة، وما يمكن إضافته إلى طابعها الخاص. من حسن حظ ساكنة أصيلة أن الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، هو ابنها، محمد بن عيسى، الذي يهتم بالطفل، وللأطفال الحظ في أنهم يجدون مكانا لإمضاء فراغهم في الإبداع، الذي يخلق توازنا في الإنسان، ويعطينا أشخاصا ناجحين ومتوازنين”.
من جهته، قال علي سلطان، فنان سوري مقيم بإسبانيا، إنه بعد دعوتين سابقتين، استطاع تلبية الدعوة حاليا. وأضاف: “أصيلة ومنتداها غنيان عن التعريف، وموسمها معروف عالميا، وهي مدينة فريدة من نوعها على مستوى العالم العربي”.
بدورها، تحدثت روزير ساليس نوغيرا، فنانة إسبانية، عن “الحرية التي تولدها الفنون”؛ فـ”إذا كان لأي شخص وقت، ولو قل، في حياته ليرى بنفسه وينتج أشياء يريد التعبير عنها وكتابتها، سيعطي لآخرين ما يحس به، فيشعر الناس بأنهم متصلون ببعضهم البعض. الفن مهم جدا، ويعطينا إحساسا بأن الحياة تستحق العيش، والجمال، بوصفه تناغما، يعطينا خيار أن نكون أكثر سعادة، ليس للفنانين وحدهم، بل لأي شخص يستمتع بالفنون، وهذا مهم جدا، وإلا صارت الحياة اقتصادا فقط”.
واسترسلت الفنانة الإسبانية قائلة: “مدن مثل أصيلة، عندما تقوم بهذا الجهد كله وتدعو فنانين مثلي للحضور هنا… هذه رفاهية كبيرة، ففي العادة لا يكون الوقت متوفرا، ومن المهم جدا أن تكون أماكن مثل أصيلة تعطي الفرصة للفنانين وللمجتمع المحلي بالمدينة، وهذا ما يجعلها أكثر غنى بلقاء الفنانين المحليين والعالميين، وتبادلهم المعاني”.
وبعد ظروف الاستثناء العالمي الراهن المرتبط بجائحة “كورونا”، أعلنت مؤسسة منتدى أصيلة المنظمة للمهرجان أنها ستكرس تقليد تنظيمه في دورتين، صيفية خاصة بالفنون، خاصة التشكيلية منها، وخريفية تخصص للنقاش الثقافي، وهو تحول يخوضه المهرجان لاستيعاب ما يعد به جمهوره من مواعيد سنوية، بينما تنتظر المدينة إنشاء مؤسسات ثقافية جديدة، من بينها متحف للفنون، ومعهد للتكوين الموسيقي.
The post أصيلة .. "مدينة الفنون المفتوحة على السماء" تتشبث برسالة الإبداع الإنساني appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/2Y5UBzt
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire