بحثا في معاني وامتدادات شيوع امتهان “الرقية الشرعية”، وآثارها على الصحة العامة، يقدم كتاب جديد للباحث يونس الوكيلي هذه الممارسة “الدينية – العلاجية” بوصفها صراعا لأنماط التدين، ويتتبع كيفية صناعة “الراقي الشرعي”، وتمثله لنفسه وللمرض والعلاج، مع اقتراحه تأويلا لهذه الطقوس “العلاجية”، على المستويين الديني الإيديولوجي والسياسي الرمزي.
وصدر هذا المؤلف عن المركز الثقافي للكتاب، بعنوان “أنثروبولوجيا الشفاء.. الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين”، وأعده يونس الوكيلي، أستاذ علم الاجتماع بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، متخصص في سوسيولوجيا الإسلام ويشتغل، أيضا، حول أنثروبولوجيا الصحة والمرض.
ويدرس هذا الكتاب “ظاهرة «الرقية الشرعية» بوصفها ممارسة دينية – علاجية في مدينة الدار البيضاء؛ مرتكزا على الأنثروبولوجيا الطبية التي تتناول موضوعاتها باعتبارها «تنتظم في سياق ثقافي ورمزي””.
ويعود المؤلف الجديد إلى تسعينيات القرن الماضي، قائلا إنها زمن ظهور هذه الممارسة، إثر “انتشار مظاهر التدين السلفي الوهابي في المجتمع المغربي، كما في باقي البلدان العربية والإسلامية وعدد من البلدان الغربية”، وهو كتاب “يبرهن على أن تحولا جرى منذ التسعينيات نحو الرقية الشرعية كممارسة دينية علاجية بديلة”، وجعل حاملها الإيديولوجي هو “السلفية الوهابية”، وفق كلمة ظهر الغلاف؛ وهو ما جعلها تصير “وسيلة من وسائل الانتشار الاجتماعي للسلفية الوهابية”.
ويصف الكتاب نمط التدين “السلفي الوهابي” بكونه حاملا لمشروع ساع إلى “تقويض نمط الإسلام المحلي الشائع بين الناس. لذلك؛ خاض (…) صراعا وجوديا ضد الممارسات العلاجية الشعبية، واصفا إياها بـ«الشرك» و«الضلال» و«الشعوذة» وغيرها من النعوت المتجسدة في زيارة الأولياء والأضرحة والمزارات؛ لغاية العلاج من أمراض متنوعة، من بينها تلك الأمراض التي يعتقدون صلتها بالجن. من هنا، انبرى ذاك التدين في إطار تصوره «التصحيحي» للدين لتقديم الرقية الشرعية بديلا عن أي شكل من أشكال الممارسات العلاجية المحلية”.
ويستدرك الكتاب قائلا في مقدمته: “لا يعني القول بأن السلفية الوهابية هي الحامل الإيديولوجي للرقية الشرعية ضدا على الممارسات العلاجية الشعبية أن السلفية الإصلاحية المغربية، باعتبارها الإسلام العالم منذ بداية القرن العشرين، تجاهلت الممارسات الشعبية السائدة في الأولياء والأضرحة؛ بل عملت على ازدرائها، باعتبارها أحد مظاهر الطرقية، كما نجد ذلك عند أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي، وغيرهم. بل لقد كانت هناك أصوات فردية دعت إلى محاربة تلك الممارسات، مثل تقي الدين الهلالي المعروف بكونه شيخ الوهابية بالمغرب، لكن كل ذلك لم يأخذ الشكل الذي اتخذته منذ العقدين الأخيرين في إطار ممارستها في مراكز متخصصة للرقية الشرعية”.
ويدرس الكتاب “الرقية الشرعية” بوصفها “البديل الذي طرحه التدين السلفي الوهابي في المجال الثقافي والاجتماعي لمدينة الدار البيضاء”، وينظر إليها من ثلاثة منظورات؛ كونها: “مجموع المرجعيات والطقوس التي يتبعها الرقاة في علاجهم للمرضى الذين يقصدونهم، والقائمة بشكل أساسي على العلاج بالقرآن والأدعية”، وانطلاقا من مظهرها التنظيمي “المتمثل في مراكز الرقية الشرعية المنتشرة في عدد من الأحياء البيضاوية الهامشية”، وانطلاقا من “تمثلات المرضى لتجاربهم المرضية ومساراتهم العلاجية”.
ويعتبر يونس الوكيلي أن “الرقية الشرعية” ظاهرة “جديدة في شكلها ومضمونها واشتغاليتها، وتتميز عن الرقية التقليدية السائدة من قبل في المجتمع المغربي”، ويرى أنها ناتجة عن “التحولات الدينية التي عرفها المجتمع المغربي منذ ثمانينيات القرن الماضي”، وهي تحولات تتسم بـ”شيوع التدين السلفي الوهابي القادم من المشرق العربي، بمشروع ديني تطهري يسعى إلى الانتشار الاجتماعي في المجال الحضري، والتجذر في معتقدات وممارسات المغاربة”؛ وبالتالي “كانت الرقية الشرعية إحدى الوسائل التي استخدمتها السلفية الوهابية لتحقيق هذه الغاية”.
وحول آليات وجود واستمرار “الرقية الشرعية”، يكتب الوكيلي أنه “في الوقت الذي ظننا أن المعتقدات والممارسات الدينية الشعبية تتراجع في ظل زحف مظاهر الحداثة على مختلف مناحي المجتمع، أو هكذا افترضت كبرى نظريات العلمنة، وجدنا أنه يعاد تشكيلها بواسطة فاعلين جدد وانتظامات وأدوات مستجدة، وفي مجالات جغرافية جديدة”.
ويضيف الباحث: “معتقدات وممارسات، من قبيل السحر والعين والجن والرقية، قادرة على تعزيز مشروعيتها على الدوام واستعمال عناصر الحداثة والعقلنة نفسها لضمان استمرار وجودها والتأقلم مع السياقات والبيئات”، قبل أن يتوقف عند الآليات التي “تؤمن هذا الاستمرار والتأقلم” وهي: التأصيل الإيديولوجي، والانتظام المهني، والأسلوب العلاجي، والاعتقاد الجماعي.
وفي حديث عن “الرقية” الممأسسة وما تعكسه من “صراع أنماط التدين” يقول الوكيلي إن “الرقية الشرعية بمرجعيتها السلفية الوهابية” تضع نفسها “ضدا وبديلا للرقية، وما يتعلق بها من تنويعات بمرجعيتها الشعبية المغربية؛ سواء في تفاصيل مهننة الممارسة وبروفايل الراقي الشرعي وخلفياته، أو تصور المرض وطقوس علاجه أو وإعادة تشكيل تمثلات المريض وتأويل تجربته ضمن هذا النسق”.
ومن بين الأمثلة التي يوردها المؤلف، برهنة على أطروحته، العلاج من “أمراض الجن” وكيف يصير، بكل طقوسه، “عملية تقويض للأساليب العلاجية المحلية التي تتغذى من عناصر التدين المغربي السائد، وفي الوقت نفسه معملا لإنتاج معنى جديد للدين والجسد والمجتمع والعلاقات ورؤى العالم”.
ويقدم الباحث “الرقية الشرعية” بوصفها “مجرد مدخل لدعوة المريض إلى نمط جديد من التدين يسعى إلى بناء شرعية جديدة، وتملك حقل السلطة على الجسد”، وينفي عنها صفة “الشأن الفردي” الذي “يعيد التوازن إلى المريض فحسب”؛ بل يراها “شأنا جماعيا يعيد التوازن إلى الأمة برمتها”، في تصورها. الشيء الذي يجعلها “عملا سياسيا”، باعتبار غايتها.
وعن هذا “التمفصل الجوهري للانتقال من الجزئي إلى الكلي، ومن الخاص إلى العام” في الموضوع، بـ”الانطلاق من ممارسة اجتماعية تبدو جزئية للغاية في سؤال التطبيب والتدين ووصلها بالانشغالات الكبرى للعصر”، يقول أستاذ علم الاجتماع إنه عمل لا يخلو من “مغامرة التأويل” ممثلة في الانتقال بين الصعيدين الماكرو – سوسيولوجي، بالاشتغال بفهم صراع أنماط التدين، والميكرو – سوسيولوجي، عند البحث في تجسد الصراع في المدينة والحي والجسد، أو في الكيفية التي تتحول بها “الممارسة العلاجية” إلى “إصلاح اجتماعي وسياسي للفرد والجماعة”.
The post كتاب جديد ينسج العلاقة بين الرقية الشرعية والدعوة إلى "السلفية الوهابية" appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3jxZwBJ
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire