نظرتان في اتجاه مختلف .. التاريخ الحقيقي يخلف عُقدا بين المغرب وإسبانيا

في ما يشبه البرهان بالخلف في نص أدبي، خاض عبد العزيز كوكاس في خلفيات الأزمة الدبلوماسية الإسبانية المغربية، متسائلا عن دواعي الغيظ التي تدفع بلدا عضوا في الاتحاد الأوروبي إلى الغيرة من بلد إفريقي سائر في طريق النمو، استرجع ثقته في إمكانية أن يكون وازنا في محيطه دون غرور ودون ضعف.

وقال كوكاس، في مقال توصلت به هسبريس، إن إسبانيا تلعب في مطبخ الصحراء بيدين عاريتين، بحنين استعماري، وتضع الملح دوما حين يكون السكر هو المطلوب، في مطلب وجودي قبل أن يكون حدوديا.

وشدد الإعلامي المغربي على أن وطن سيرفانتيس لم يتحرر بعد من عقدته الاستعمارية، ومازال يرى في المغرب: الجار المقلق، الذي يحمل “أحلاما إمبراطورية توسعية”، وهو الذي حول مدينتين مغربيتين، بشكل معاند للتاريخ والجغرافيا، إلى ملكية له.

وهذا نص المقال:

بيننا وإسبانيا .. نظرتان في اتجاه مختلف لأن التاريخ الحقيقي يخلف عقدا

ما الذي يغيض إسبانيا، البلد المتقدم العضو في الاتحاد الأوروبي، كقوة دولية اقتصادية وسياسية، من المغرب.. هذا البلد الإفريقي المتخلف الذي ينتمي إلى بلدان الجنوب؟ نحن المفتونون بالنموذج الديمقراطي الإسباني وبشكل الانتقال الاقتصادي السريع الذي نقل البلاد من مستنقع التخلف والحرب الأهلية إلى حارس البوابة الجنوبية لأوربا؟.

من حق أي إسباني أن يطرح علينا السؤال ذاته مقلوبا:

ما الذي يغيظكم كمغاربة من إسبانيا؟.

ويكون جوابنا بكل الصدق الممكن: إننا نشتهي مسارا مشابها لانتقال ديمقراطي حقيقي، كما عرفته إسبانيا، لكن بدون حرب أهلية ولا عبر استعارة وجه فرانكو، نريد أن تكون لدينا مؤسسات قوية، مواطنة متساوية، مجتمع منفتح على الأفق الكوني، تقدم اقتصادي… إذ نستغرب كيف يمكن لـ”جُغمة” ماء في مسافة لا تتعدى 13 كيلومترا أن تجعل الحياة مختلفة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط إلى درجة التناقض الجارح، الذي لا يمكن بأي حال أن يعود إلى قدر أعمى للجغرافيا، أحمق الخطى يدوس هامة الجنوب للإعلاء من شأن الشمال!.

نشتهي، بدون حسد، أن يكون لنا شبه بالكورتيس الإسباني دون يمين عنْصري متطرف، وصحافة مهنية بدون أخطائها القاتلة، نشتهي ذلك الحس العالي للمواطنة لدى الإسباني وحركية مجتمع مدني يريد أن يطهر تاريخ إسبانيا من عقدها الاستعمارية، دون أن نسقط في عشق أعمى للانتقام من ظلم عواصف الصحراء.. نشتهي أن تكون لنا ديمقراطية حقيقية ومؤسسات متينة ووعي سياسي وثقافي كما في إسبانيا، دون أن نتمنى لها حال تخلفنا وجهلنا وأعطاب ديمقراطيتنا ومؤسساتنا الهشة..

يغيظنا كمغاربة أن نظل لوحدنا رهن توازنات إقليمية بين ثقل ماضي القوى الاستعمارية في القارة العجوز، وطموحات الاكتساح لدى العالم الجديد القادم من وراء بحر الظلمات. لا يمكن للمغرب وحده أن يدفع ضرائب مخاض تاريخ عصي الوضع، والفهم أيضا، ووجع جغرافيا بين برزخين لا يبغيان، لأن الشرق شرق، والغرب غرب.. ولن يلتقيا، لأننا كمغاربة ضحية ثقل تاريخي حابل بالتناقضات؛ نحن لدى الشرق متهمون بالتخلي عن عروبتنا والتحرر من ديننا، وأن نموذجنا هو الغرب، ونحن لدى الغرب محكوم علينا بالتقييم التسطيحي والاختزالي، بكوننا ضحايا الاستبداد الشرقي غارقين في قيود العبودية والجهل والتخلف، مؤبد علينا أن نظل إلى الأبد متخلفين وجهلة وعبيدا لسادة الغرب، لحضارة الرجل الأبيض.

لكن يغيظنا من إسبانيا أنها لم تتحرر من عقدتها الاستعمارية، وأنها تظل ترى في المغرب: الجار المقلق، الذي يحمل “أحلاما إمبراطورية توسعية”، وهي التي حولت مدينتين مغربيتين، بشكل معاند للتاريخ والجغرافيا، وعبر أقدمية الاحتلال فقط، كلا من سبتة ومليلية والجزر المحاذية، إلى ملكية دائمة لإسبانيا.. ومازال يجرها حنين استعماري فاضح للعب في مطبخ الصحراء بيدين عاريتين، وتضع الملح دوما حين يكون السكر هو المطلوب.. نحن لا نريد أن نحرك حنين الجراح في جسد أمة لا تريد أن تتذكر جرائمها الاستعمارية في جنوب البحر الأبيض المتوسط كما حربها الأهلية الدموية؛ لكن يغيظنا ألا تذكر إسبانيا كل التاريخ المشترك، وألا تبقي في ثقل إرثها الحضاري سوى حلبة الكوريدا في التعامل مع المغرب، لأننا ببساطة لا نريد أن نتحول لا إلى ثيران هائجة توقد شهية الدم في حكام إسبانيا، على شكل حنين العبيد المقاتلين أيام القيصر الروماني، ولا أن نتحول إلى مصارعين بمناديل حمراء تهيج غرائز الدم في ثيران عمياء…

نريد فقد أن نحافظ على كينونتنا الإنسانية وهويتنا المتعددة، وأن تنظر إلينا إسبانيا، ليس كما ينظر الفلاحون إلى خطر الجراد في مواسم الجفاف، بأننا فقط مهربون ومهاجرون سريون ومشعوذون خرافيون، ووكر للدعارة وحقول كل أصناف المخدرات…

لمَ لا تنظر إلينا إسبانيا من شرفة ابن رشد وابن ميمون والمعتمد بن عباد؟ وتصر على النظر إلينا من خلال محاكم التفتيش والمورو البدائي المتوحش والبربري المتخلف، أو الغازي الذي حين حل بالديار الإسبانية حلت العواصف والجفاف والمجاعة زمن طارق بن زياد، كما يتمثل ذلك المخيال الجماعي الإسباني. كلما اشترى المغرب تكنولوجيا عسكرية متطورة أو دبابة أو طائرة أو سفينة حربية، يتم تجييش الرأي العام للقوة العسكرية لبلد لا يسعى سوى إلى الحرص على توازن القوة الإقليمي وحفظ حدوده؛ كلما أنشأنا ميناء اعتبروا أنفسهم المستهدفين، رسمنا حدودنا المائية كقرار سيادي فتحركت الآلة الدعائية المقيتة للتحريض على ما وصف بـ”الأطماع التوسعية” للمغرب.

نحن لا نرضى أن نكون مجرد دركي لأوربا، وفي مقدمتها إسبانيا، وأبناؤنا لا يفكرون في استرجاع الفردوس المفقود ليلملموا جراح المسلمين والعرب الذين أضاعوا الأندلس كرجال وبكوا عليها كما تبكي النساء، فلن يقوم فينا من جديد لا يوسف بن تاشفين ولا يعقوب المنصور الموحدي، فقد ولى ذلك الزمان، ولم يبق منه إلا المنارات الثقافية والحضارية الكبرى، التي تعتبر أساس أي توافق وتعايش بيننا وبين إسبانيا، فكيف يجيش الإعلام ويحرض السياسيون المتطرفون ضد المغرب لمجرد أن صبية عزل إلا من أملهم في حياة أفضل ضاقت بهم السبل فحركوا بالجملة نحو سبتة، لنتهم بأننا اغتصبنا أرضا ليست لنا، وأننا نريد استرجاع المدينتين المحتلتين غير الموضوعتين لا في الأمد القريب ولا المتوسط على جدول أعمال الدولة المغربية، ولكن على المستوى البعيد نعم، ونطمح أن يتحقق ذلك بروح وفاقية وأخوية دون إسالة قطرة دماء..

ما يغيظنا في إسبانيا هو جهلها الأكبر بالمغرب اليوم كبلد سائر في طريق النمو، بلد استرجع ثقته في إمكانية أن يكون وازنا في محيطه بدون غرور لكن بدون ضعف أيضا، وعناد سياسييها للحقائق التاريخية والوقائع الجارية، بل عدم إنصاتها للأصوات المستنيرة لمثقفيها وسياسييها الكبار الذين بسط أحدهم خلفيات النظرة غير السليمة من طرف الإسبان للمغرب، حين قال: “كثيرا ما ارتسمت صورة معتمة في أفق “الإسبان”… إنها صورة “المورو”، أو بكل بساطة “البربري”، وكل هذا التسميات تكشف عن غموض الفكرة التي كونوها عنه، ولكن الكلمة التي ظلت قائمة، الكلمة التي تشخص لدى الإسبان الصورة المعتمة الموجودة على الجانب الآخر من المضيق هي “مورو”.. ورغم ذلك فالحال أن هذا “المورو”، الذي تصعب موقعته في التاريخ ويطرح تساؤلات مشوشة، قد فرز لنفسه صورة مبهمة، محاطة بالظلال، مقلقة ومتناقضة، وذلك ربما نتيجة فعل الجذب والرفض الممتد في الزمن وعمليات الإدماج والطرد التي ميزت حضوره القريب أو البعيد في الحياة الإسبانية. في كل الأحوال، الصورة هي، أولا وقبل كل شيء، تمثيل ذهني، وليست معرفة حقيقية، فقد لا تكون سوى انعكاسا، ظلا. “المورو” هو، أولا وقبل كل شيء، فكرة نكونها عن واقع لم نتوصل إلى معرفته بالكامل، هوية “المورو” الحقيقية ودوره في تاريخنا، كينونته الأصلية والحالية.. مازالوا مختفين بالنسبة إلينا خلف مجموعة من الصور التي يمكننا اكتشافها تدريجيا عبر القرون، في كتاباتنا التاريخية وفي آدابنا وفي تقاليدنا الشعبية، والأسوأ من ذلك في رؤانا السياسية، بما في ذلك الحالية منها” (“جنوبي طريفة المغرب وإسبانيا: سوء تفاهم تاريخي” لألفونصو ذي لاسيرنا وقدمه ميغيل آنخيل موراطينوس، وزير إسبانيا سابقا في الشؤون الخارجية والتعاون).

لنا ما لنا من تخلفنا وأخطائنا الصغيرة وأوجاعنا التي بلا حدود وعنادنا أحيانا في السير ضد التاريخ، لكن يغيظنا ألا تحترم إسبانيا كل هذا الثقل التاريخي والحضاري للمملكة الشريفة، وحقها في استرجاع صحرائها كمطلب وجودي وليس كصراع حدودي، وأن تنظر لنا نظرة الأنداد بدل نظرة الأنذال هاته، التي تخزينا ولا تشرف وطن سيرفانتيس ولوركا اللذين عشقناهما، كمنارات مضيئة بل وكأنبياء للإنسانية، ولو أننا ننتمي لأمة “لا نبي بعدي”!.

The post نظرتان في اتجاه مختلف .. التاريخ الحقيقي يخلف عُقدا بين المغرب وإسبانيا appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3fg43Wq

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire