العزلة في زمن الجائحة

عزلة الخوف من المجهول، عزلة الهروب من الألم والفناء، عزلة الانحباس في المكان، تجربة أخرى سيعيشها إنسان القرن الواحد والعشرين بفضل كائن مجهري صغير استطاع بخبثه ومكره أن يستفيق ويتسلل لجسد الإنسان ويرديه صريعا، إذ شهيته في ازدياد مطرد، ويجوب مشارق الأرض ومغاربها لاصطياد فرائسه.

جائحة فيروس كوفيد التاجي بَصَمَتْ على سلوك شمولي في مدى الانتشار، غزت جل الأقطار والأمصار، وساحت في مختلف القارات، واجتاحت أغلب دول العالم بمدنها وقراها وأحيائها، فأصابت الفقراء والأغنياء، الرؤساء والرعاة، الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.

البقاء للأقوى والأصلح، مصطلح من قاموس الداروينية استلهمه هذا الفيروس ليكون عنوانا لضحاياه، فهو يقضي في طريقه على الأبدان العليلة، والطاعنة في السن، وكأنه جنرال في الجيش النازي، لا يصطفي لصفوفه من ضحاياه الناجين إلا الأقوياء جسدا ومناعة وعزيمة على المجابهة.

إنسان الذكاء والعلم والتقنية يقف عاجزا ومذهولا أمام قدرة هذه الكائنات المجهرية على هزم جبروته، ومذعورا أمام شدة قهرها، وسطوتها في إيقاف حركة العالم، فتعيده إلى نقطة الصفر، وتكشف قزمية وجوده أمام أصغر كائنات هذه الأرض.

الأرض الواسعة التي يمشي الإنسان في مناكبها تضيق هذه الأيام على نفوس وعقول البشر، فالمكوث في البيوت هو الأفق المتاح حينما يغيب الدواء للداء، وبالتالي دخول تجربة العيش في رحلة العزلة الإجبارية، حينها يصبح البيت فضاء لا يقل اختلافا عن تجربة السجن.

لا شيء يدور في العقول أكثر من الأسئلة عن وقع الصدمة والذهول، عن الموت وفراق الأحبة، عن قوة الخالق وضعف المخلوق، عن معنى الأشياء وخبايا الوجود، عن نقد الذات ومحاسبتها، عن أفق المستقبل وعن الرجاء في الانعتاق من شرور هذا المأزق الوجودي.

إنها فسحة ذاتية يسبح فيها الإنسان في أعماقه الداخلية، ليكشف أسرارها، ويتعرف على ذاته واحتياجاته ومشاعره، ومنها يدرك ويُقَيِّمُ أبعاد علاقته مع محيطه والآخرين، والسعي إلى ملامسة الحقيقة الكونية.

سيكون الإنسان مُطالبا بتكييف أيامه مع حياته الجديدة، واكتساب سلوكيات فن العزلة، واحتواء وضعه الجديد، والاشتغال على تدعيم قناعاته بفكرة الانعزال والانسحاب كمنظومة دفاعية يتوقع بها الأسوأ، وكحل من الحلول الوحيدة المتاحة اليوم لخلاصه ونجاة المجتمع.

الحركة ناموس من نواميس الكون، لكن تجربة العزلة تبطئ حركة الإنسان، بل توقفها عن الدوران، حينئذ تضطرب حركية حياته، ويتزعزع إيقاعها، ويختل توازنها، فتتكسر عاداته اليومية في العمل والسفر والأكل والترفيه.

من الغرابة أن يشبه العالم في عزلته هذه الأيام نمط عيش سكان القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي، فسرعان ما يمكث أهلهما في بيوتهم لشهور في انتظار مرور فترة العواصف الثلجية، وانخفاض درجة الحرارة القاسية، وربما يكون مفيدا استلهام تجاربهم في تدبير حياة عيش العزلة القهرية في البيوت.

سنستحضر كثيرا صور الحيوانات القطبية، التي يتقدمها الدب، حينما يخرج مقاتلا للبحث عن قوته وطعامه تحسبا لأيامه القادمة التي تَسبق دخوله في سبات شتوي طويل، في انتظار انقشاع دفء الشمس، وهي الصورة نفسها التي نراها هذه الأيام في الأسواق والمتاجر، عندما تزدحم جموع الناس وتتهافت على اقتناء المنتجات من الأغذية خوفا وهلعا على نفادها,

الليل والنهار يصيران امتدادا واحدا لإنسان العزلة، فإذا كانت ظلمة الليل قرينة بالسكون والنوم فإن ضوء النهار ليس ضوءا أخضر للخروج ومغادرة المساكن، وبذلك فلن تضيء الشمس بأشعتها ولن تخاطب وتشمل إلا باقي كائنات الأرض الأخرى.

قولبة المجتمعات الحديثة في أنماط من الاستهلاك الجنوني جعلت حاجياتها ورغباتها تنمو وتزداد، بحثا عن لذة الحياة ورفاهيتها، التي يطمع الإنسان أن ترافقه حتى في عزلته، وبالتالي السقوط في مخالب الإدمان المرضي الحديث، الذي يحتاج علاجا للإقلاع عن أسبابه ومسبباته.

إنها كاشفة لزيف الثقافة الفردانية، التي طبعت سلوكيات الإنسان الحديث، وأن مصير الفرد مرتبط بالجماعة، فبزحف الفيروس المدمر لحياته لن تكون حريته الفردية وحدها عونا له للانعتاق والنجاة، بل يحتاج إلى روح وتضامن الجماعة، واتفاق جل مؤسسات المجتمع على نهج سلوكيات جماعية موحدة للخروج من شبح مغادرة الوجود.

العزلة هي محلل نفسي يقيس صحتنا النفسية، إذ سيرصد سلوكياتنا مع محيطنا الضيق، وسيلحظ تفاعل الأزواج والأطفال، وسيميز طبائعنا، ومدى تواصلنا، وسيختبر قدرتنا على الصبر وحسن التصرف، وسيكشف عيوبنا وعنفنا وزيف صورنا الاجتماعية، كما سيحدد أمراضنا من القلق والاكتئاب…

هي بمثابة فرصة للطبيعة حتى تستريح من صخب الإنسان وضوضائه، وتنظف رئتها من سموم ونفايات المصانع وعوادم السيارات، ويتعافى باطن الأرض من علل استنزاف مكنوناته، وتعود الأسماك للتكاثر والسباحة في قعر البحار والمحيطات، والطيور للطير في السماوات، وتجوب الحيوانات المدن والقرى، كأنها محميات طبيعية.

كما هي فرصة فريدة للتحول الذاتي، والتحرر من قناعاتنا السابقة، وتغيير نظرتنا للعالم، والانطلاق من جديد لرسم أفق للمستقبل، حيث كانت ملجأ للأنبياء والعلماء والعظماء والمفكرين تمنحهم قوة التدبر والتفكير والإبداع والتأمل، والسفر بملكة الخيال، للخروج بحكم عميقة أو ابتكارات غيرت وجه الإنسانية.

عزلة الإنسان الحديث ليست عزلة تامة، بل قد تصير في أحيان كثيرة عزلة جسدية فقط، فتطور مجالات تكنولوجيا التواصل جعل هذا الإنسان منفتحا على آراء وأفكار الناس، والمجتمعات القريبة والبعيدة، فتصير بذلك مسألة التفرد والاستقلالية نسبيتين، مادام الفرد منغمسا وخاضعا لمنظور تلك المجتمعات.

شبكات التواصل الاجتماعي وعوالم الأنترنيت يمكن أن تكون ملاذا للبشرية، تسهل تواصلها، وتملأ وقتها في أيام العزلة، لكنها سرعان ما تنكشف عيوبها، وأن حقيقة عوالمها ليست سوى فضاء افتراضي محدود لا يستطيع تعويض حياة الطبيعة والجري في مناكبها، ولا قدرة لها على إطعام الأجساد ولا تناسل الأجناس ولا إسعاد النفوس، وخلق دفء الاحتكاك والتفاعل مع الآخر.

The post العزلة في زمن الجائحة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3cOTM1A

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire