حين نشر الراحل إدوارد سعيد كتابه “الاستشراق” اهتزت الأوساط الأدبية والفكرية، بشكل لم يسبق له مثيل لهذا الاستغراق في التنقيب عن الاستشراق الذي يسكن السياسة والأدب، ويؤثث الرحلات الأدبية والعلوم الإنسانية الغربية بدون استثناء. وقد بين سعيد أن “الشرق” صناعة غربية.
احتفى بالكتاب العالم الغربي لأنه يقرأ التراث الغربي، أولا، ويقرؤه بعين أخرى، ثانيا، ولأنه مسيحي.. والغرب مسيحي لحما، ودما، ونخاعا، وتدير شأنه وسياسييه الكنيسة بصيغ أخرى. ليبرالية؟ واحتفى بالكتاب العرب لأن الكاتب عربي، فلسطيني وتقدمي..
ومثّل المفكر (والكتاب) سلطة فكرية ما تجرأ أحد على تحليل آليات الخطاب الذي قامت عليه بكل العمق المطلوب، والغوص في عناصر تشكيل رؤيته والقراءة. وبعض الانبهار، والمعاصرة حجاب أو حُجب.
وحدث أن قادت ظروف خاصة أنور مجيد نحو العناية بالنظرية، والفكر، والنقد الثقافي، والحضارة العربية- الأمازيغية-الإسلامية، ثم الاستشراق، ونظرية ما بعد الاستعمار، فكتب في كل هذه القضايا كتبا، منها “إماطة اللثام عن التقاليد”، و”حرية وأرثوذوكسية”، و”الإسلام وأمريكا”. ولذلك كان الأجرأ في نقد كتاب إدوارد سعيد ونظريته منذ بحثه الأول وعنوانه “هل يمكن لناقد ما بعد الاستعمار أن يتكلم؟” (سنة 1996). ولا تخفي دلالة العنوان نية الرد على كل من إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك. سبيفاك التي كتبت “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟”
وببعض هذه الصفة طلب من أنور مجيد أن يسهم في كتاب نشر في بحر السنة الماضية عن مستقبل الاستشراق تحت عنوان “الاستشراق والأدب” من لدن اللجنة العلمية المشرفة على الكتاب. وكتب البحث الأخير “مستقبل الاستشراق”، وحمل بحثه النبرة الانتقادية ذاتها للاستشراق. و”اضطر” الناشر والقيمون على الكتاب إلى أن يكلفوا باحثا أمريكيا، جيفري ناش، وكان ساهم في الكتاب، بأن يكتب مقالة أخرى في شكل “قراءة نقدية” لبحث أنور مجيد، من دون أن يفلح في قراءة البحث قراءة حقيقية، ليظل الكتاب تمجيدا أو احتفاء بما يريده الغرب، والدفاع عن كنائسه.. لا رأي فوق رأيه، تلك أمنيته.
ويشغل أنور مجيد، كما حاول تبسيط ذلك في هذه المقالة الخاصة بقارئ مغربي، البحث عن سبيل مغربي نحو تحبيب المغربي في بلده (ولو أنه حب يغتاله الساسة يوميا بالفساد ومطاردة الريع). شيء نظير ما يسمى الآن خارطة طريق مغربية لنشر الوعي بتاريخ المغرب والتعريف به، وخصوصيته. وهو يرى أن من عرف تاريخ المغرب يستحيل أن يتنكر له، ولا ينحني أمامه. ويرى أيضا أنه يجب أيضا التفكير مغربيا في المغرب، والسعي نحو تمكين المواطن المغربي من الكرامة التي ترسخها العدالة. إن البلد منغرس، منذ قرون، في جسد التاريخ والجغرافية. ولذلك فهو يبدع سبيله الخاص في إدارة ذاته بالشكل الذي يفرضه عليه تاريخه الخاص، وتطوره الخاص. وكما ابتدع الاستثناء المغربي الطجين المغربي، مثلا، فهو قادر على أن يبدع وطن المغاربة المعتزين بالمغرب، الملتصقين بأرضه، العاملين على تقدمه وازدهاره.
المغرب ونهاية الاستشراق ..
منذ عقود، عندما كنت طالبا في كلية الدراسات العليا بالجامعات الأمريكية في نيويورك، كانت النظرية الفرنسية هي الموضة السائدة. وكان الطلبة اختاروا أيقوناتهم من بين كوكبة من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين، ومن بينهم يومها: جاك دريدا، وميشيل فوكو، ولويس ألتوسير، وجاك لاكان وغيرهم كثير. وكان لبعض النقاد الأدبيين البريطانيين بعض التأثير أيضا، لكن الأكاديمي، الذي شكل أجيالًا من الجامعيين التقدميين الذين يشتغلون على العلاقة بين الأمريكيين الأوروبيين وبقية الآخرين، كان هو إدوارد سعيد، الأستاذ العربي الأمريكي الذي أشاع مفهوم الاستشراق، وعمَّمه، وجعله شعبيا من كثرة التداول. قام سعيد بعمل شبيه بعمل الطبيب الشرعي، إذ فحص مجموعة كبيرة من الآداب ليبرز أن تصوير الغرب للعرب في الروايات، والفن، والتاريخ كان متأثرا بالأحكام المسبقة والمصلحة الذاتية. واستخدم الجامعيون التقدميون تحليل إدوارد سعيد لتوجيه أبحاثهم الخاصة والرد بحدة على الغرب من أجل منح صوت للعرب، والمسلمين، وغيرهم من غير الغربيين.
لقد مرت أكثر من ثلاثين عاما على نشر إدوارد سعيد كتابه عن “الاستشراق”، وقد غادر المؤلف نفسه هذا العالم منذ أكثر من سبعة عشر عاما، لكنني ما زلت أنتظر سماع أصوات إخواني وأخواتي المغاربة في عدد من الموضوعات ذات الأهمية المرتبطة أشد الارتباط ببلدنا، والمنطقة، والعالم. هل يوجد عندنا، بل هل تشكل لدينا تقليد أدبي يمكننا أن نسميه بصدق تقليدا مغربيا؟ وإذا لم يكن عندنا تقليد أدبي، فهل يمكننا التفكير في إبداع تقليد واحد يعكس أعمق أعماق مشاعرنا، ويدفع دفعا بالناس إلى المكتبات، ويوجههم نحوها لالتهام الروايات أو الدواوين الشعرية، ويسمح لنقادنا بالتحدث إلى الجماهير الواسعة؟ ما معنى التاريخ وما دلالته بالنسبة للمغربي؟ فلننس ما يعتقده المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل ويقدمه كمفهوم للتاريخ- هل أعطانا مؤرخونا المغاربة خريطة طريق لما قد يعنيه لنا التاريخ؟
أخبرني أحد أصدقائي منذ عهد بعيد، وكان يُشغِّل رافعة بميناء طنجة القديم قبل تقاعده، أنه يستطيع تلخيص تاريخ المغرب بأكمله في جملة واحدة. ذهلت للأمر ولقوله. توسلت إليه أن يخبرني بذلك ويشبع فضولي، فقال: “العرب دخلوا المغرب وعاشوا على الساحل وهرب الأمازيغ الأصليون إلى الجبال”. حاول عزيزي القارئ تفكيك هذا الرأي. ما نال صديقي إلا نصيبا قليلا من التعليم الرسمي، لكنه محق فيما ذهب إليه من أن المغرب، مثل أي شيء في الحياة، هو مكان يعرف توترا ناجما عن عدد من التناقضات يدفع بها نحو السطح التطور.
والسؤال الذي يجب طرحه هو: إلى أي مدى نفلح جميعا، وننجح في إدارة هذه التوترات ونحسن تدبيرها. وتظهر النتيجة أننا نقوم بذلك بشكل جيد، خاصة خلال العقود الأربعة الماضية. لقد جعلنا الأمازيغية لغة رسمية، وتم إقرار الخط الخاص بكتابتها: تيفيناغ. ولم يحصل السكان الأصليون في الولايات المتحدة الأمريكية بعد على جزء بسيط من هذا الاهتمام. وبهذا المعنى، نحن أفضل بكثير من أمريكا. ويؤكد ذلك أن تنوعنا اللغوي وتعدد الثقافات في بلدنا سياسة رسمية.
ثم إن لدينا مؤسسة تسمى المخزن. وعندما كنت صغيرا، كنت أنا وأصدقائي نخاف منه. كان ذلك يعني بالنسبة إلينا الشرطة، والمخبرين، والبيروقراطيين- وهم في الأساس موظفو دولة مراقبة. والآن أنا مندهش من المخزن. فهو يعني فن الحكم، والحفاظ على الأمن، وتجنب الفوضى، وتأمين الاستقرار. إن حكم الأمة ليس بالأمر السهل. فالشخص العادي لا يستطيع تسيير شؤون أسرة صغيرة من دون صعوبات ومشاكل. وفجأة، ظهر المخزن كحل لا يصدق، حل مدهش. هل يوجد عند شعوب أخرى عبر العالم نظام مشابه لمخزننا؟ لست على علم بوجود أي دولة أخرى تتوفر على شيء شبيه بذلك. سمعت ذات مرة دبلوماسيا مغربيا رائعا يذكر الفرنسيين بأن لديهم شيئا يسمى “الإدارة الترابية” (l’administration territoriale)، لكنهم بطريقة أو بأخرى تخلوا عنها، وكانت النتيجة أنهم لم يعودوا قادرين على تعقب العناصر الخطرة في وسطهم. وهكذا بدون المخزن الفرنسي كانت فرنسا معرضة للإرهاب.
ما يعنيه هذا الأمر أن لدينا حكومة أطلقتُ عليها ذات مرة اسم أو مصطلح “الديمقراطية السلطانية”، وهي حكومة تأخذ في الاعتبار التاريخ المغربي، والإسلام، وعدم وجود التقاليد السياسية اليونانية- الرومانية ذاتها لتوفر لنا نظام إدارة يناسبنا، ويخدم مصالحنا، ويصلح لنا. ولذلك لماذا لا نشرح كل هذا للناس في جميع أنحاء العالم، عوضا عن الاضطرار إلى الدفاع عن أنفسنا باستمرار لأننا لا نملك أنظمة سياسية كالتي توجد عندهم، وتصلح لهم؟ ذلك أننا على مر قرون خلت قمنا بتطوير نظام حكم خاص يسمح لأبناء الأمة ذات الأغلبية المسلمة بالعيش بكرامة وحرية أكبر مما هو متاح في معظم البلدان الأخرى ذات الأغلبية المسلمة.
وما الذي يمكن أن نقوله عن تقاليدنا الموسيقية؟ الموسيقى الأندلسية، والملحون، وگناوة، وأحيدوس، والطقطوقة الجبلية، والعيطة، والعديد من الأنواع الأخرى التي هي أيضا فريدة من نوعها، وخاصة بلدنا. ماذا تعني كلها بالنسبة لنا؟ كيف تعكس تاريخنا وتعبر عنه؟ لدينا الكثير من المواد الغنية الكفيلة بالسماح لنا بأن تكون لنا أفكارنا الخاصة في الموسيقى. قد تكون للخبير الموسيقي الأمريكي أو الفرنسي آراء في الموضوع، لكني مهتم أكثر بما نعتقده ونفكر فيه نحن كمغاربة.
ثم إن لغتنا الدارجة رائعة بما لا يقاس، وبلا انقطاع. إن الطنجاويين مثلي لا يزالون يطلقون كلمة “كَازِيطا” على الجريدة، و”اللَّـتْشِينْ” على البرتقال، و”التْرَامْبِيَّا” على حافلة النقل العمومي الحضري. نعم، إنه تأثير جارتنا الإسبانية. ويطلق الناس في الرباط على هذه الأشياء المجلة، والبرتقال، و”الطوبيس”. وذلك تأثير المستعمرين الفرنسيين. ثم لدينا كلمة “واخا”، أي نعم. وهي من تأثير العرب. ومنذ زمن بعيد أخبرني أستاذ أزهري بأن كلمة “واخا” مشتقة من التآخي – الأخوة. أترك هذا الموضوع للخبراء ليقرروا فيه ويقولوا الرأي الفيصل.
وما الذي يمكن أن يقال عن مطبخنا الشهير؟ من سيدرسه، ويكتب عنه، ويقف على المراحل التي قطعها ليخبرنا كيف أصبح مشهورا عالمياً؟
يمكنني أن أقدم من المواضيع ما لا يحصى ولا يعد، موضوعا تلو الآخر، لإقناعكم بأننا، نحن المغاربة، فريدون في الطريقة التي نعيش بها ونرى بها العالم. اعتاد خالي الراحل، وهو مسؤول قضائي، أن يكتب لي رسائل بخط مغربي رائع، بنقطة واحدة فوق حرف القاف، ليبلغني أخبار الأسرة. فلنتساءل: ماذا يعني أن اللغة العربية المغربية حادت، في بعض علامات الترقيم والخط أيضا، عن باقي العالم العربي؟ أنا متأكد بأن هذا الأمر تم شرحه، ولكن لو كان هذا هو الحال في الولايات المتحدة، ستكون هناك ألف نظرية حول تفسير الخط الأمريكي الاستثنائي. وهذه الصحيفة لا تعتمد علامات الترقيم المغربية التقليدية، لم لا تقوم بذلك؟ هل لأن التكنولوجيا صممت على نظام الكتابة المشرقية؟ أما زلنا، إلى جانب العدول وقليل من “الطُلْبَة” الذين يرحلون الواحد تلو الآخر، ندرب الناس ونعلمهم فن الكتابة المغربية، والخط المغربي؟
The post الاستشراق والاستثناء المغربي .. من "الديمقراطية السلطانية" إلى الدارجة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/30xLcyw
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire