القطيبي يتقفى أسرة "آل تبون".. يهود مترجمون تألقوا في سماء الأندلس

رصد الباحث المغربي، طارق القطيبي، معالم متعددة للحضور اليهودي في الأندلس بطابع خاص وبخصوبة إبداعية وفكرية مائزة، تفتقت فيها أعلامه، وانصهرت ضمن بوتقة مجتمع جمع شتات روافد وأعراق مختلفة في ظل سماحة الإسلام. الذي أتاح للجميع العيش جنبا إلى جنب في فردوس أمسى مثالا للبهاء والعطاء ومرتعا خصبا للتلذذ بكل أشكال التنوع الثقافي الذي اغترف من قيم التسامح وثوابت التعايش، لذلك كان من البديهي أن تكون للطائفة اليهودية بالأندلس شخصيتها المتفردة التي جعلتها متميزة ومختلفة تماما عن سائر المجتمعات اليهودية المتفرقة في بقاع مختلفة من عالم العصر الوسيط، وذلك بما أحرزوه من مكانة سامقة في المجتمع الأندلسي حين شغلت هذه الطائفة مناصب سامية في بلاطات الملوك والأمراء وكانت دوما من أكابر المجتمع.

لذلك تعد القرون الوسطى حلقة ذهبية وزاهية ليهود الأندلس وأسعد عصور التاريخ العبري على الإطلاق، وذلك لما تنطوي عليه من زخم ثقافي وعلمي متنوع شمل ميادين مختلفة، حيث كان من تجلياته أن أضاءت مصابيح المفكرين والأدباء والأطباء والفلاسفة اليهود بأعمال رائدة، بلغت مبلغا عظيما في ظل سماحة الإسلام وامتداد رقعة لغة القرآن التي بلغت حدا لا يوصف من الوهج والحضور في مناطق متعددة.

وبرزت أسماء عديدة لا يزال التاريخ الإنساني يذكرها بمداد الفخر والسؤدد، بما أسدته من خدمات في الثقافة والفكر والأدب، وفق مقالة بحثية للقطيبي، ناهيك عن الأدوار التي قامت بها في مجالات الترجمة ونقل المظان العربية إلى اللغة العبرية التي تشبعت بروافد والتماعات ثقافية متعددة، ذلك أن اليهود شكلوا عاملا مهما من عوامل نشر الثقافة الإسلامية في كامل أوروبا. وذلك حين قاموا بنقلها سواء من خلال اتصالهم المباشر بمسيحيي الغرب أو عبر كتبهم ومصنفاتهم التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية خلال العصور الوسطى، حيث كانوا بحق حلقة وصل بين الإسلام والمسيحية كوسطاء لنقل الثقافة العربية الإسلامية إلى الغرب اللاتيني. فقد ترجم اليهود على مدى القرون الوسطى مصنفات فلسفية وعلمية وأدبية تنم على نهلهم من معين الثقافة الإسلامية، وذلك حين اعتكفوا وفي مناطق متعددة ومنها مراكز الأندلس على إعادة ترجمات ذخائر علمية نفيسة ونقلها بالمقابل إلى اللغة العبرية التي بدأت تستعيد عافيتها في تلك الحقبة من تاريخ العصر الوسيط. حيث كانت جذوتهم متوقدة لنقل ترجمات قسطا بن لوقا البعلبكي وثابت بن قرة الحراني وإسحاق بن حنين وخلفه حنين بن إسحاق، كما ترجموا ذخائر أعلام الفكر الإسلامي مثل البطروجي وابن أبي الرجال القيرواني والزرقالي والزهراوي والرازي والفرغاني والكندي وابن الهيثم وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وإخوان الصفا وجابر بن الأفلح وابن باجة.. وغيرهم من مصابيح الفكر الإسلامي مشرقا ومغربا.

وإذا كانت الترجمة من العربية لدى النخبة اليهودية بعيدة كل البعد عن أي انتماء عائلي توارث فيها الأحفاد مهنة الترجمة عن الأجداد، باعتبارها جاءت لجهود فردية في لحظات زمنية متقطعة، فإن الأمر يكاد يكون حالة استثناء لدى أسرة يهودية عريقة أمست مهنة الترجمة فيها متوارثة أبا عن جد، وهذا حال لسان أسرة آل تبون التي عاشت ردحا من الزمن في غرناطة، قبل أن تضطرها الظروف السياسية للعيش بجنوب فرنسا خلال الفترة الانتقالية بين المرابطين والموحدين بالأندلس وما رافق ذلك من أحداث متعاقبة، والتي استقر بها المقام في بداية الأمر بمدينة ليونيل حيث كان يعمل بها الطبيب اليهودي الشهير بنيامين التطيلي وذلك عام 1160م. وتشير المصادر التاريخية إلى أن يهوذا بن تبون أحد أفراد هذه الأسرة العلمية كان يملك خزانة رفيعة تعج بالمصنفات العربية والعبرية على حد سواء، ورثها عنه بنوه وحفدته من بعده والذين ما فتئوا أن ساروا على دربه، حيث نبغ منهم طائفة من المترجمين في مقدمتهم شموئيل بن يهودا ويهودا بن موسى ويعقوب بن ماهر وهذا ما سنلامسه عن كثب، من خلال النبش في ذاكرة أسرة يهودية عريقة من غرناطة كانت لها أياد بيضاء على عمليات الترجمة التي أخذت سياقات متعددة، خلال مقامها بجنوب فرنسا حيث شكلت هناك نواة لتخصيب الفكر الأوروبي بلقاح الثقافة الإسلامية من خلال معرفتهم وإلمامهم الجيد باللغة العربية لغة المعارف والعلوم في تلك الحقبة من تاريخ أوروبا العصور الوسطى.

1- يهوذا بن تبون: الأب الروحي لمترجمي العائلة

يتبوأ يهوذا مكانة سامقة في وجدان الفكر العبري القروسطي، بصفته الأب الروحي لأسرة آل تبون، فقد كان من أوائل المترجمين اليهود الذين نقلوا مصنفات وأضابير من العربية إلى العبرية، حيث ترجم كتاب الأمانات والاعتقادات لسعديا كاؤون وكتاب إصلاح الأخلاق للفيلسوف الإلهي ابن جبيرول وكتاب الخزري ليهودا اللاوي وكتاب التنقيح لمروان بن جناح بجزئيه اللمع والأصول وكتاب الهداية لبحيا بن فاقودة، ذلك أن ترجمة هذا الكتاب تتسم باللبس والتعقيد وذلك لما تنطوي عليه من مصطلحات ومفاهيم فلسفية عربية صعبة كانت تحتاج لما يقابلها في اللغة العبرية، لذلك لأمراء أن يتفوق ويتوفق يهودا بن تبون في إيجاد مخرج لتلك المصطلحات الفلسفية، حيث ما لبث أن أوضح ذلك في مقدمة ترجمته لكتاب الهداية إلى فرائض القلوب، من خلال المنهج الذي اهتدى إليه في الترجمة “إنه يجب أن يترجم المصدر بادئ ذي بدء كلمة كلمة، وبعد ذلك يجب أن يرجع المترجم إلى الترجمة فيمهدها ويكتبها بأسلوبه كأنه هو الذي ألف الكتاب.

لذلك يعتبر يهوذا بن تبون الأب الروحي لمترجمي هذه العائلة التي ذاع صيتها، حيث يعود له الفضل في إنقاذ مجموعة طائلة من المؤلفات، التي كانت في طريقها المحتوم للضياع والإتلاف. فقد حمل معه مكتبته الكبيرة التي استقدمها معه من غرناطة موطن أسلافه، ذلك أنه خلال مقامه الأول بجنوب فرنسا خلق نواة أولية للترجمة بدأها بنقل بعض عيون الثقافة الإسلامية إلى العبرية أساسا، وهو ما سمح له بإضفاء تنميقات أسلوبية على الأدب العبري حيث أدخل في هذا الشأن تعابير وقسمات عبرية جديدة، ومن الأعمال الرائدة التي نقلها يهوذا بن تبون كتاب “منتخب الدرر” للفيلسوف اليهودي ابن جبيرول، حيث جعل نصه العبري مطابقا تماما للنص العربي بما تضمنه من تكرارات واستطرادات وتضمينات.
كما واصل الأب الروحي لمترجمي أسرة آل تبون مشروع الترجمة لعلم آخر من أعلام الثقافة العبرية وهو بحيا بن بقودة، خاصة في كتابه الشهير “الهداية إلى فرائض القلوب” الذي شكل نقلة نوعية في الفكر العبري العقائدي والفلسفي والأخلاقي، لذلك يعتبر كتاب “الهداية إلى فرائض القلوب” من أهم المصنفات الفلسفية الدينية التي تشتمل على الوصايا والواجبات المتعلقة بالقلب، ومن أهم الوصايا التي توقف عندها هذا المفكر اليهودي المتبحر في الأسرار الغيبية التوحيد لله ومحاسبة النفس والمحبة لله والإخلاص له. فقد كتب كتابه هذا باللغة العربية التي كان يجيدها يهود العصر الوسيط، والذين كانوا يعيشون وسط المجتمعات الإسلامية مغربا ومشرقا، لكن بأبجدية عبرية وهي السنة التي كانت متبعة لدى مفكري يهود الأندلس فيما كان يطلق عليها “العربية اليهودية”. ذلك أن ابن فاقودة بحث في المصنفات الدينية اليهودية التي سبقه إليها أعلام بني جلدته، قبل أن يصب عصارة فكره وتأملاته وملاحظته حول محتوى الكتاب الذي أفصح من خلال مقدمته عن ثنايا ذلك (ولما كان علم فرائض الدين على ضربين أحدهما ظاهر، والآخر باطن، تصفحت كتب من تقدم من أوائلنا بعد أهل التلمود الذين صنفوا في أمور الشرائع تآليف كثيرة، لأقف منها على العلم الباطن، فألفيت جميع ما قصدوا شرحه وبيانه لم يخل من أحد ثلاثة أغراض: أحدهما شرح نصوص كتاب الله عز وجل وكتب الأنبياء عليهم السلام وذلك على أحد وجهين: إما شرح لفظها ومعناها مثل شروح الربي سعديه رضي الله عنه لأكثر الكتب العبرانية)، لذلك كان من البديهي أن تمثل ترجمة يهوذا بن تبون لكتاب “الهداية إلى فرائض القلوب” قبسا حقيقيا، حملته العديد من الأبحاث والدراسات التي ظهرت عبر فكر عقائدي وفلسفي وأخلاقي خلال العصر الحديث، والذي واكبه اهتمام متزايد من لدن كل الطوائف اليهودية. ناهيك عن أن “كتاب الهداية لفرائض القلوب” يمثل امتدادا حقيقيا للمصنفات العربية في طابعها النحوي اللغوي والمظان الإسلامية في نبشها من معين العقيدة. فأما التأثير العربي فيظهر في الصيغ اللغوية وقواعد النحو العربي وما يتفرع عنه متبعا في ذلك نفس أساليب التدوين العربي، أما التأثير الإسلامي فيمكن ملامسته من خلال المفاهيم والمصطلحات الدينية التي يعج بها الكتاب.

والواقع أن بحيا بن فاقودة يعد بحق من فلاسفة اليهود بالأندلس الذين ساروا على نهج وخطى مفكري وفلاسفة الإسلام من خلال كتاب “الهداية إلى فرائض القلوب”، الذي خلد شهرته وأقحمه في خانة المتصوفة اليهود حيث دبجه باللغة العربية بناء على الفضيلة الكبرى التي هي طهارة القلب أو ما يعرف بطهارة ونقاء القلب، لذلك كان من البديهي أن يشكل هذا الكتاب أساسيات القواعد العشرة للتصوف اليهودي المعروف بـ”القبالاة” والتي هي على التوالي:

1. الإخلاص في التوحيد

2. الاعتبار بالمخلوقات

3. الطاعة والخضوع لله

4. التوكل على الله

5. الإخلاص لله

6. التواضع لله

7. التوبة لله

8. محاسبة النفس

9. الزهد في الدنيا

10. المحبة في الله.

وقد أثنى نصارى الأندلس على هذا الكتاب الذي أصبح يحمل عنوانا آخر بعد ترجمته هو “واجبات القلوب”، حيث عزز مذهب “القبالاة” وأمسى أساسا لقواعد التصوف اليهودي. ذلك أن أسلوب ومنهج بحيا بن باقودة تميز في الكتابة الفلسفية والصوفية باحتذاء طريقة العلماء المسلمين، وهو ما آثار حفيظة المستشرق المجري جولد تسيهر باعتباره أحد مؤسسي الدراسات الإسلامية الحديثة بأوروبا، الذي بحث في نظائر وأشباه ذلك مقارنا بما كتبه المسلمون في هذا الباب، خاصة حين قام بالمقابلة النصية بين كتاب الحكمة لشيخ فلاسفة الإسلام أبي حامد الغزالي وكتاب الهداية لبحيا بن فاقودة. كما أن يهودا بن تبون نقل كتابا آخر لسعديه كاؤون إلى العبرية يحمل عنوان “الإيمان والآراء”. وترجم أيضا للعالم النحوي يونا بن جناح مصنفات في قواعد الصرف والنحو. والتي كانت تكتب في ما قبل بالحرف العربي. كما نقل من العربية إلى العبرية كتاب “الخزري” للحاخام يهوذا هاليفي.

ويعد يهودا اللاوي أو يهودا هاليفي صاحب كتاب الحجة والدليل في نصر الدين الذليل ممثلا حقيقيا للتيار المحافظ في الفكر اليهودي الذي عبر عن الخصوصية اليهودية، فهو تيار أعطى الأولوية للنقل على العقل وللدين على الفلسفة وللذوق والكشف والإلهام على النظر والاستدلال. لذلك فإن فلسفة يهودا اللاوي جاءت كرد فعل إيماني محافظ على الفكر العقلاني الحر، حيث تضمن كتاب “الحجة والدليل في الدين الذليل” بين دفتيه زمرة من السمات التي ميزت الفكر اليهودي عبر العصور، وعلى رأسها الازدواجية المتمثلة في وجود عنوانين للكتاب الأول الخوزري الذي وضعه المؤلف لملك الخزر فتسمى باسمه، والثاني “الحجة والدليل في نصر الدين الذليل”. حيث تضمن الكتاب في مجمله جدلا حقيقيا بين اليهودية من ناحية والنصارى والمسلمين والقرائين من ناحية أخرى، باعتباره ردا يقوم على الدليل والبرهان والانتصار لليهودية من وجهة نظر يهودا بن شموئيل هاليفي مؤلف الكتاب، بيد أن ثمة سمة يمكن تلمسها من خلال استقراء مجمل أفكار الكتاب الذي يظهر غير ما يبطن، فيظهر من عنوانه أن هدفه الأسمى يتمثل في نصرة الدين اليهودي، في حين يبطن تمردا على اليهودية وكفرا بها، ذلك أن المؤلف قام بإخفاء تمرده وأظهر بدلا منه تعصبا مرضيا بسبب الظروف السياسية والاجتماعية والدينية العصيبة التي مرت بها الأندلس في تلك الحقبة.

كما أن يهوذا بن تبون لم يبق حبيس عمليات النقل والترجمة، بل انصرف لسبر أغوار علوم أخرى، حيث تفرغ لدراسة علم النباتات وفن إعداد العقاقير فخلف بذلك بحوثا رائدة في المجال الصيدلاني، ولعل هذا الاهتمام بالجوانب العلمية يعود أساسا إلى النشاط الفكري والعلمي المتميز الذي اشتهر به يهود جنوب فرنسا والمتحدرين أساسا من التربة الأندلسية الخالصة.

وقد وجد يهوذا بن تبون ضالته في اللغة العربية التي رآها أكثر قربا ومصاقبة للغة العبرية في التغلب على بعض الصعوبات التي قد تعتري عمليات الترجمة، ففي رسالة مرفوعة إلى الربي “أشير” نجده يعبر عن تجليات ذلك في إعجاب كبير وتقدير عظيم: “إن اللغة العربية غنية جدا وواسعة ويسهل بواسطتها التعبير في أي مادة من العلوم وعن أي تفكير بحذافيره، لأن هذه اللغة متطورة إلى أقصى حدود التطور وليست مثل اللغة العبرية محدودة الكلمات والتعابير، إذ أننا نستقي كل شيء من التوراة وهذا غير كاف لجميع الضرورات فلا نستطيع نقل أفكارنا إلى اللغة العبرية بطريقة جميلة ومعبرة، مثلما نستطيع أن نفعل ذلك بواسطة اللغة العربية”.

لذلك كان حرص يهوذا كبيرا على توريث طريقة عمله وتحبيبها لمن جاء بعده من خلفه، وذلك من أجل إيلاء الكتب محبة فائقة وصلت حدا لا يوصف، فلا تزال مكتبة “بودليان” الشهيرة تحتفظ بنسخة من وصية كتبها لابنه وخلفه من بعده المترجم شموئيل يوصيه خيرا بالكتب والدأب على إعطائها كل ما تستحق من عناية لائقة، ومما جاء في ثنايا هذه الوصية:” لقد شرفتك يا ولدي بأن اقتنيت لك مؤلفات عديدة لكي لا تضطر إلى طلب إعارة الكتب، كما يصيب الكثيرين من الدارسين الذين في بعض الأحيان يبحثون جادين عن كتاب ولا يتمكنون من العثور عليه، فأنت بنعمة الله من الذين يعيرون الكتب ولا يستعيرونها. عندك في الغالب نسختان. وقد اقتنيت لك كتبا في جميع فروع المعرفة وثقتي بك أنك تحافظ عليها بعناية، وبما أن الله أعطاك قلبا عاقلا ومتفهما للأمور حرصت البحث لك عن معلمين ماهرين في تلك العلوم التي لا تدخل في نطاق اللاهوت. ولدي اجعل كتبك وفاقك واجعل مكتبتك بستان راحتك وفردوسك وتغد بثمارها وتنعم بورودها، واجن فواكهها وعطرها وعبيرها وإذا تسرب إليك الملل والضجر انتقل من بستان إلى بستان ومن ثلم إلى ثلم ومن صورة إلى صورة، وهكذا تستيقظ رغبتك من جديد وتتلذذ نفسك. راجع مكتبك العبرية في كل شهر والعربية كل شهرين ونظمها بطريقة واضحة حتى لا تتعذب في البحث عن كتاب ترغب فيه، ولكي تدرك موضع كل كتاب على الرفوف التي يجب تغطيتها بالقماش الثمين أو الستائر وصيانتها من الماء والفار والأضرار الأخرى، إذ أن كتبك أفضل كنز تقتنيه. وعندما تعير كتابا سجله في الحال في كراس خاص قبل أن يغادر مكتبتك وعندما يعاد إليك امحه من الكراس. سجل في كل كراس كتب كل رف حتى إذا ما ألقيت نظرة خاطفة على الكراس تعثر على الكتاب الذي تبحث عنه وبهذا تتجنب البلبلة والفوضى، واحرص على الرقاع الموضوعة في المخطوطات إذ أنها غالبا ما تتضمن معلومات قيمة وملاحظات هامة جمعتها أنا بذاتي ودونتها، الق دائما نظرة على فهرس كتبك لكي تكون على بينة مما تملكه من المخطوطات، لا ترفض أن تعير الكتب أولئك الذين لا يملكون الوسائل المادية للحصول عليها لكن على شرط أن يضمنوا لك ردها”.

2- شموئيل بن تبون: مترجم ولوع بأعمال ابن رشد وابن ميمون

أما شموئيل بن تبون الذي سار على درب والده يهوذا بن تبون فقد ولد بمنطقة لونيل بفرنسا وتوفي بمرسيليا عام 1204 م؛ حيث قام برحلة علمية قادته لمراكز ثقافية متعددة عرج من خلالها على بيزيه وآرل وبرشلونة وقشتالة، التي أقام فيها مدرسة للترجمة على عهد ملكها ألفونسو الثال، حيث ما فتئ أن وضع لها أسس وقواعد الترجمة الجماعية، فقد اتبع فيها خطوات التراجمة العرب والسريان، كما زاد عليها مياسم دقة الترجمة وسرعة وثيرة النقلة المترجمين، حيث اتسمت الترجمة في هذه المدرسة التي أنشأها باعتماد الترجمة من العربية إلى اللاتينية مرورا بالعبرية. وهي الترجمة التي ستعرف إيقاعا متسارعا من خلال مدرسة المترجمين بطليطلة التي يعزى لها الفضل في نقل روائع الفكر الإسلامي والمعرفة اليونانية. وينظر لشموئيل بن تبون باعتباره فيلسوفا وعالما لاهوتيا على أساس أنه أمهر المترجمين من العربية إلى العبرية خلال القرن الميلادي الثالث عشر، حيث اشتغل على مصنفات أرسطو وابن رشد وموسى بن ميمون على وجه الخصوص، حيث قام بنقل كتابه الشهير “دلالة الحائرين” الذي حاز به شهرة غير اعتيادية، لذلك لأمراء أن نعتبر ابن ميمون حجة المفكرين اليهود قديما وحديثا بالنظر لمشروعه الفلسفي الذي نادى من خلاله بضرورة إعمال العقل في القضايا الكبرى، وأن العقل في الأساس لا يتنافى مع جوهر العقيدة، وهي الفكرة التي أشاعها مفكرو الأندلس وفي مقدمتهم الفيلسوف الكبير ابن رشد الذي يعتبره الكثيرون الإطار المرجعي، الذي نهل منه ابن ميمون خاصة في كتابه دلالة الحائرين، والذي سار فيه على منهج فيلسوف قرطبة وذلك من خلال التوفيق بين الفلسفة والدين أو بين العقل والوحي الإلهي. من هذا المنطلق يمكن اعتبار كتاب “دلالة الحائرين” من الكتب الفلسفية المميزة التي أبدعها يهود الأندلس فقد ألفها ابن ميمون بالعربية، بيد أن أعداءه حاولوا تحريف الكتاب وتحويره عن طريق استبدال كلمة دلالة، بكلمة ضلالة. حيث ضم هذا الكتاب بين دفتيه جملة من الأفكار والمواقف، ذلك أن قسما مهما منها يدور حول بسط أقوال المتكلمين من معتزلة وأشاعرة وغيرها مع تفنيدها ودحض أفكارها. وقد حاول ابن ميمون في كتابه “دلالة الحائرين” تطمين الحائرين من أبناء جلدته بعد ارتدادهم كيفية التوفيق بين العقل والوحي الإلهي، حيث أفصح في المقدمة عن الغرض المقصود من الكتاب بقوله: (هذه رسالة لها غرض ثان هو شرح النصوص المجازية شديدة الغموض. التي نجدها في أسفار الأنبياء، دون أن يكون واضحا أنها من المجاز، والتي -على الضد من هذا- يأخذها الجاهل والذاهل عن معناها الخارجي دون أن يرى فيها معان خفية). كما أضاف شموئيل بن تبون إلى جهده هذا كتابا آخر لموسى بن ميمون هو “كتاب السموم والمحرز من الأدوية القاتلة” والذي ألفه عام 1199م. حيث أنشأها للوزير القاضي الفاضل سنة 1198م خلال مقامه بمصر، وهي تعرف بالمقالة الفاضلية حيث كتبت آخر أيام ابن ميمون قبيل وفاته. وفي هذه الرسالة العلمية تبرز تجارب ابن ميمون وآرائه الشخصية في علم الطب. باعتبارها موجهة أساسا للأطباء دون سواهم رغم أنها مرفوعة للقاضي الفاضل. حيث وصف في قسمها الأول العقاقير والأدوية التي يعالج بها المصاب بالعض أو اللسع، أما القسم الموالي فيبحث في السموم المختلفة معتمدا في ذلك على التراث الطبي لابن زهر الإشبيلي أحد أعمدة الطب بالأندلس. أما كتاب “السراج” الذي ترجم بعضه شموئيل بن تبون بمشاركة الأديب يهودا الحريزي للعبرية، وذلك بعد مرور قرن كامل على وفاة مؤلفه ابن ميمون، فقد أقبل عليه وبنهم كبير يهود المغرب والأندلس وجنوب فرنسا، حيث ألح يهود روما خلال عام 1296م على العلامة “سليمان أدرث” الذي كان يقطن آنذاك مدينة برشلونة بتكوين لجنة علمية لترجمة كل أجزاء كتاب السراج للعبرية، وإكمال ما بدأ به شموئيل بن تبون ويهودا الحريزي، حيث دعا “سليمان أدرث” الأحبار من رجالات العلم والمعرفة، مما جعل الكتاب يعرف انتشارا وذيوعا في كل البلدان التي كان فيها اليهود يجهلون اللغة العربية. كما أن شموئيل بن تبون وأثناء غوره في ثنايا الفكر والفلسفة استفاد كثيرا من الإبحار في المتن الرشدي عبر أعمال ومصنفات ابن رشد الفلسفية بما فيها شروحاته الأرسطية، والتي أوقدت جذوته للنهل من ينابيعها والعمل بالمقابل على تضمنيها عبر كل التفسيرات المستفيضة التي أوعزته لتفسير نصوص التوراة والتي اعتكف عليها ردحا من الزمن.

3- موسى بن تبون يكرس حياته لترجمة المنجز الطبي لموسى بن ميمون

أما موسى بن تبون (1240-1283م) فهو يعد من أشهر المترجمين خلال القرون الوسطى حيث شكلت ترجماته واجتهاداته معبرا إلى أوروبا، والتي تمكنت عن طريقه من التعرف على عدد طائل من المصنفات المتميزة لعلماء الإسلام في مجالات الفلك والفلسفة والحساب والطب، خاصة أعمال ابن رشد والفارابي وابن سينا وجابر بن حيان والرازي والبطروجي، وهي أسماء رائدة لها إشعاعها الكوني في حقل العلوم والمعارف. فقد تم نقل هذه المصنفات في بداية الأمر إلى العبرية ثم منها إلى اللاتينية لتجد طريقها نحو لغات أخرى، حيث قام بترجمة كتاب “الحدائق” للعالم الأندلسي “ابن السيد البطليوسي”، وهو عبارة عن كتاب تعليمي يمكن المتعلم من ولوج عالم الفلسفة بما يعكس في العمق خصائص ومقومات المذاهب الفلسفية الإسلامية في الأندلس، وهذا الكتاب قام بنقله المستعرب الإسباني الشهير آسين بلاسيوس خلال القرن .«Libro de los cercos» الميلادي الماضي وأعطاه اسم:

كما عكف موسى بن تبون على ترجمة المشروع الطبي لابن ميمون، حيث قام في هذا السياق بنقل كتابه “تدبير الصحة” الذي أهداه للملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين الأيوبي، وهو من المصنفات الشهيرة التي ألفها ابن ميمون حيث يشتمل هذا الكتاب على أربعة فصول. ففي الفصل الأول منه تحدث عن التدبير الحسن للصحة وذلك بالمحافظة على النظافة وقواعدها العامة، حيث اعتمد فيه على أعمال أبقراط وجالينوس أساسا، أما في الفصل الثاني فأماط فيه اللثام على طرق ومسالك استعمال الأدوية وأهم العلاجات السهلة الممكنة حين يكون المرء في حالة ترحال وسفر. كما تناول في الفصل الثالث علاجات النفس معتمدا في ذلك على أفكار أرسطوطاليس والفارابي، وهذا الفصل موجه بالأساس للابن البكر لصلاح الدين الأيوبي الذي كان يشكو أعراضا نفسية حادة، أما الفصل الرابع والأخير فهو عبارة عن تلخيصات وصل عددها إلى سبعة عشر في فروع طبية متنوعة.

أما كتاب “فصول موسى في الطب” والذي يسمى أيضا بفصول القرطبي، فتوجد منه نسخة خطية نقلت من مخطوط ليوسف بن عبد الله ابن أخت موسى بن ميمون وتلميذه المدلل، حيث يعود تسويدها لعام 1205م، أي بعد مدة وجيزة من وفاة ابن ميمون، فهي تمثل بحق أكبر رسائله الطبية حجما وشهرة، فقد ألفها بين عامي 1187و1190م حيث اشتملت على حوالي 1500 قانون مستخلص من مصنفات جالينوس الطبية وبعض أعلام الطب اليوناني، فقد تضمنت حوالي 42 تعليقا ونقدا تحليليا، أما الكتاب فيضم 25 فصلا يبحث في التشريح ووظائف المخلوقات الحية والأمراض الباطنية وعلامات الداء وتشخيصه وأسبابه وعلاجه، حيث يبحث في الحميات ووضح طرق تمرن الطبيب على معالجتها، وبين المسهلات والمقيئات، كما تعرض لأمراض النساء وتدبير الصحة والرياضة والاستحمام والصيدلة، وناقش جالينوس في النهاية فيما ورد عنه من التناقض في آرائه مناقشة دقيقة. وهذا الجزء من الرسالة من أهم ما ورد في أدب الطب العربي، حيث أمسى الكتاب مرجعا لدى الأطباء انطلاقا من القرن الميلادي 12.

أما المصنفات التي دبجها موسى بن تبون بالحرف العبري فنجد منها “سفر الأناشيد” الذي استعان فيه بالمجاز والتأويل الفلسفي محتذيا في ذلك منهج والده “شموئيل” وخاله “أنطولي”، كما صنف كتاب “الزاوية” الذي جاء كرد فعل على سخرية المسيحيين، الذين اطلعوا على الأعراف اليهودية متبرمين من فقهاء التلموذ الذين يعتمدون أقوالا لا تتفق ومنطق العقل، في حين أنها تحتاج لتأويل مجازي وإدراك ما كان مضمرا. إضافة لكتاب التنين بصفته شرحا مجازيا لسفر التكوين، لذلك فإن آراء موسى بن تبون الفلسفية لا تمثل بونا عن آراء آبيه، فقد توكأ مثله على أسفار التوراة لعرض تلك الآراء محتذيا المشروع الذي بدأه والده شموئيل وخاله أنطولي، باعتبار أن موسى بن تبون جاء برزخا ثقافيا وفكريا بينهما معا.

وتبقى هذه مجرد ومضات من مجهودات أسرة آل تبون، يقول المتحدث، معتبرا إياها من البيوتات العريقة ليهود غرناطة بما أحرزته من حضور ووهج ثقافي بالأندلس، قبل أن تضطرها الظروف السياسية المتلاحقة لمبارحة مسقط رأسها مكرهة شأنها في ذلك شأن العديد من الأسرة اليهودية ليستقر بعضها في شمال إفريقيا وجنوب فرنسا وقسم آخر فضل التوغل في أقطار أوروبية خاصة في قسمها الأوسط والشرقي مثل كراكوف حيث تجمعت هناك قاعدة يهودية كبيرة بجنوب بولندا، أو بأطراف ممتدة من الإمبراطورية العثمانية التي كانت راياتها البيض ترفرف في المجر والنمسا وبلدان البلقان، لذلك كان من الثابت أن يجد المنجز العربي الإسلامي في الآداب والفنون والعلوم طريقه لأوروبا القرون الوسطى عن طريق جهود المترجمين ومن ضمنهم اليهود، وهذا حال لسان أسرة آل تبون التي كانت لها إسهامات سامقة في نقل التأثيرات الثقافية بين المسلمين والمسيحيين بفعل عامل المساكنة والمجاورة والمصاقبة التي اطلع بها يهود الأندلس، بيد أن هذا الإسهام المبكر لأسرة آل تبون الذي يعتبر إرهاصات أولية لمشاركة يهود الأندلس في عمليات الترجمة سيعرف إيقاعا متسارعا من خلال عمليات الترجمة التي سيشتد أوارها، مع بروز مدينة طليطلة كمركز علمي أوروبي للثقافات الثلاث، والذي كرس نفسه على مدى ثلاثة قرون متتالية لتخصيب الثقافة الأوروبية بلقاح الترجمات العربية عبر روافد إسلامية وإغريقية خالصة.

The post القطيبي يتقفى أسرة "آل تبون".. يهود مترجمون تألقوا في سماء الأندلس appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



from Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية https://ift.tt/3dWpBaE

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire